الأسئلة الصامتة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999


الأسئلة الصامتة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

الأسئلة الصامتة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

"ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك"‏,‏ هي من الحكم المعروفة‏,‏ لابن عطاء الله السكندري تاج الدين .. وقد قال النفري الرندي‏:‏ في شرحه لهذه الحكمة في سلسلة الحكم العطائية‏,‏ ربما أعطاك الله سبحانه وتعالى ما تميل إليه نفسك‏,‏ فمنعك التوفيق والطاعة والإقبال عليه‏,‏ وربما منعك منه أو من بعضه فأعطاك التوفيق والرضا والقبول‏,‏ وهكذا فقد يكون المنع في حقيقته عطاء والعطاء في جوهره منعا.
عبد الوهاب مطاوع

أنا شاب على أبواب الأربعين من عمري نشأت في أسرة طيبة بين أب كريم يرحمه الله وأم فاضلة أطال الله عمرها وعدد من الإخوة والأخوات‏,‏ وقد رحل أبي عن الحياة وأنا في السادسة عشرة من عمري وحصلت على شهادتي العليا‏,‏ وأنهيت خدمتي العسكرية وسافرت للعمل بإحدى الدول العربية‏,‏ وخلال عملي بها أعلنت خطبتي لابنة خالتي وهي فتاة كريمة الأخلاق وعقدت قراني عليها وبعد‏3‏ شهور تم الزفاف وقضيت مع عروسي في مصر شهرين ثم سافرت إلى مقر عملي‏,‏ وبعد‏ 8 شهور أخرى رجعت إليها وقضيت معها‏ 75‏ يوما‏,‏ وبعد شهور أخرى لحقت هي بي في مقر عملي وسعدت بها ومضت الأيام بنا هادئة‏,‏ غير أنني لم ألمس بشائر الحمل بعد كل هذه الفترة فتوجهت إلى أحد المعامل لإجراء تحليل للخصوبة‏,‏ وقرأت النتيجة في وجه طبيب المعمل قبل أن يصارحني بها وتقبلتها هادئا‏,‏ ثم أعدت إجراء التحليل في معمل آخر‏..‏ ثم ثالث وجاءت النتيجة مماثلة‏..‏ وإلى هذه اللحظة لم أكن قد أخبرت أحدا على ظهر الأرض إنه لا أمل لي البتة في الإنجاب لانعدام الحيوانات المنوية لدي نهائيا‏..‏ ولم أكن أيضا قد فقدت هدوئي وتماسكي‏,‏ لكن نتيجة التحليل الثالث كانت قد قضت على آخر أمل تعلقت به‏..‏ فشعرت بحزن شديد أذهلني حتى رؤية صاحب العمل حين صادفني عند عودتي للعمل‏..‏ وبعد قليل من رجوعي للعمل سألني مديري عن سبب تجاهلي لصاحب العمل حين التقيت به منذ قليل‏..‏ فأجبته صادقا بأنني لم التق به‏,‏ فقال لي بل التقيت به واستغرب عدم مصافحتك له‏..‏ فوجدتني أبوح له بما أهمني وشغل خاطري‏..‏ وبعد قليل طلبني صاحب العمل في مكتبه وأسمعني من الكلام الطيب ما خفف عني بعض أحزاني وطلب مني التمسك بالصبر والأمل في رحمة الله رب العالمين‏..


وجاء إلى المدينة بعد شهور جراح مصري كبير فعرضت نفسي عليه‏,‏ واستقر الرأي على إجراء فحص جراحي وأخذ عينة لتحليلها ووافقت على ذلك بشرط عودتي لبيتي في نفس اليوم لكيلا تشعر زوجتي بالقلق‏,‏ وتم إجراء الجراحة وانتظرت نتائج تحليل العينة لمدة أسبوعين وقلبي يخفق بالأمل والخوف‏,‏ وحين توجهت إلى الطبيب الجراح لمعرفة النتيجة تكرر لي ما حدث في أول تحليل وقرأت النتيجة في وجه الطبيب قبل أن يصارحني بها ولم أقل له سوى إنه سبحانه وتعالى قد قدر لي هذا وما شاء فعل ووجدت عبارة لأحد الصوفية الكبار تتردد بقوة في أعماقي هي‏:‏ ربما منع فأعطى‏,‏ وربما أعطى فمنع‏!..‏
ورجعت إلى البيت هادئا فكان أول ما فعلته هو أن جلست مع زوجتي وشرحت لها كل شئ بصراحة تامة‏,‏ وطلبت منها أن تفكر جيدا في أمرها‏,‏ فأسمعتني أكرمها الله من الكلمات الحانية ما أثلج صدري وخفف عني بعض الألم‏,‏ وصارحت شقيقي الأكبر الذي يعمل معي في نفس المدينة بأمري‏..‏ ووجدتني بعد قليل أخفف عنه ألمه وهمه وألوم نفسي أن أثقلت عليه‏,‏ بما صارحته به‏.‏


ومضت حياتي مع زوجتي في سلام إلى أن رجعنا لمصر بعد عامين ووجدتني محاصرا بالأسئلة الصامتة في عيون الأهل والأخوة والأخوات والأصهار عن سبب عدم حمل زوجتي وإنجابها حتى الآن‏,‏ ولم استطع بالطبع مصارحة أحد من أهلي بالحقيقة ليس خجلا منها وإنما إشفاقا من وقعها عليهم بعد أن جربت ذلك من قبل مع شقيقي الأكبر ورجعنا بعد انتهاء الإجازة إلى مقر عملنا‏..‏ وأمضينا عامين آخرين‏,‏ ثم رجعنا إلى بلدنا مرة أخرى في أجازة وكان قد مضي على زواجنا حوالي سبع سنوات دون إنجاب فوجدتني في وضع لا أحسد عليه‏..‏ ووجدت التساؤلات التي كانت صامتة في الزيارة السابقة قد أصبحت صريحة‏,‏ ووجدتني ملزما بأن أشرح لكل فرد من الأهل والأصهار ما حدث بالضبط‏..‏ وما فعلت‏..‏ وما قاله الأطباء وكيف كانت نتائج التحاليل الأولية‏..‏ والنهائية إلخ وهو حديث ثقيل على النفس ومؤلم لصاحبه وحدث ما كنت أخشاه من ردود الأفعال التي تباينت بين الحزن والتعاطف‏..‏ والشماتة من البعض لا أدري لماذا‏..‏ غير أن هذه الردود لم تترك والحمد لله أي أثر على علاقة زوجتي بي‏..‏ وإن كانت قد شرخت علاقتي أنا بالأهل كلهم للأسف الشديد ورجعت إلى غربتي وفي النفس مرارة وفي الحلق غصة‏.‏


فإذا سألتني ما هي المشكلة الآن‏..‏ أجبتك أنها تتمثل في أنني قد أصبحت إنسانا آخر مع كل من اضطرني عن قصد او سوء نية أن أعلن على الملأ شيئا شديد الخصوصية بالنسبة لي‏,‏ وهو عدم قدرتي على الإنجاب لأسباب لا حيلة لي فيها‏,‏ وذلك بإلحاحه علي السؤال أو بإحراجي بالتساؤلات التي لا مفر من تقديم الإجابات عنها‏,‏ وأتمنى أن أرجع كما كنت مع الجميع لكنني لا أملك ذلك للأسف حتى الآن‏,‏ ولهذا فلقد كتبت لك هذه الرسالة لكي أرجو من كل الأهل ـ أهلي وأهل الجميع ـ أن يرحموا كل زوجين يريدان أن يحتفظا لنفسيهما بما يخصهما من أسرار لا ينعكس أثرها سوى عليهما وحدهما‏,‏ وأن يترفقوا بهما في السؤال سواء بأسئلة العيون أو بالأسئلة الصريحة‏,‏ لأن السؤال غير اللائق أو الجارح لا ينمحي أثره أبدا من نفس من يوجه إليه‏,‏ على عكس ما يتصورون.

 

 وفي النهاية فإني أطمئنك أنني وزوجتي علي أحسن حال‏,‏ ونرعى الله في عشرتنا معا وقد أصبح بيتنا واحة للمحبة وراحة البال والاحترام وأكرمنا الله بالحج والعمرة عدة مرات‏,‏ وشكرا لك أن أتحت لي هذه الفرصة لإخراج هذا البخار المكتوم من صدري‏.‏
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

من اشق الأمور على الإنسان المهموم بأمره أن يجد نفسه مضطرا إلى التصريح بما يتحرج أن يعرفه عنه الآخرون‏,‏ أو ربما كان يرجو أن يعفوه من الحديث عنه أو الإشارة إليه‏,‏ تلطفا منهم وإدراكا لحساسية الأمر وخصوصيته بالنسبة له‏.‏
ولكن ماذا نفعل يا صديقي مع من قد يدفعهم حرصهم علينا أو حبهم لنا في بعض الأحيان إلى عدم الاكتفاء بملاحظة الحال بغير سؤال‏,‏ والإلحاح علينا بالتساؤلات الصامتة أو الصريحة عما لا تكون إجابته إلا كشف أفكارنا والحديث عما لا يسعدنا البوح به؟

وماذا نفعل مع غيرهم من البشر الذين لا يدركون أين تقع أسئلتهم المؤلمة من القلوب الحزينة‏.‏
لقد قال بعض الحكماء أن من أدب السؤال‏,‏ ألا يسأل المرء صاحبه عما يعلم أنه يتحرج منه التصريح به‏,‏ أو تؤلمه مجرد الإشارة إليه‏,‏ وأن من لا يلتزم بمثل هذا الأدب في التعامل مع الآخرين إنما يضطرهم لمكابدة عناء الكذب لإخفاء ما لا يفضلون أن يكون موضوعا للنقاش مع الغير‏,‏ أو يضطرهم لمكابده عناء البوح بما يريدون أن يطلع عليه غيرهم‏.‏
ولهذا فلقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن الفضول الذي يقتحم خصوصيات الآخرين ويهتك أستارهم‏,‏ وعن كثرة السؤال التي تفتح الأبواب لنطأ الجراح ـ وإيلام المشاعر‏,‏ وإثارة المتاعب‏.‏
ولقد نزلت الآية الكريمة‏101‏ من سورة المائدة التي تقول‏:‏ يا أيها الذين أمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
فيمن كانوا يلحقون بالسؤال على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لم ينزل فيها أمر ونهي‏,‏ أو يلحون في طلب تفصيل أمور أجملتها القرآن وجعل في إجمالها سعة للناس‏,‏
أو بالاستفسار عن أشياء لا ضرورة لكشفها لان كشفها قد يؤذي السائل أو غيره من البشر‏,‏ غير أن المفسرين يجعلون منها منهاجا أخلاقيا للتعامل بين البشر في أمور الحياة الأخرى‏,‏ ويرون في هذا المنهج درءا لشرور الفضول والتطفل على خصوصيات الآخرين وأسرارهم
والمثل الإنجليزي القديم‏:‏ لا تسألني فأكذبك‏.‏
أي لا تسألني عما لا أحب البوح به لك أو لغيرك فتضطرني للكذب‏!.‏
وليس السؤال المحرج هو وحده السؤال الذي ينطق به اللسان‏,‏ لأن من أسئلة العيون الصامتة أيضا ما لا يقل إحراجا للمسئول عن السؤال الناطق‏,‏ لهذا فقد كان من حسن الكياسة دائما أن يكبح المرء لسانه عما لا يجوز له السؤال عنه‏..‏ وعينه أيضا عما لا يجوز لها الإلماح إليه‏.‏
والأمر معقود في النهاية لحسن الإدراك والفهم اللذين ينبغي أن يتوفرا لدى المحيطين بالمرء من أهله وأصدقائه‏!‏
إذا ماذا يعني سؤال زوجين مضي على زواجهما سبع سنوات دون حمل ولا إنجاب عن أسباب عدم إنجابهما سوى إيلام المسئول‏..‏ ونكأ جراحه ووضعه في موضع المطالب بتقديم تفسير لما لاح حيلة له فيه ولا جريرة؟ وماذا يغير مثل هذا السؤال الجارح من واقع الحال‏.‏
وأي عائد جدي له سوى جرح مشاعر المقصود به وتذكيره بحرمانه الذي لا حيلة له فيه ولم يختره لنفسه بإرادته؟
إنني معك يا صديقي تماما في أن من واجب الجميع عدم الإلحاح بالسؤال على أي زوجين يرغبان في أن يحتفظا لنفسيهما بمساحة من الخصوصية لا يجوز حتى لأقرب الناس إليها اقتحامها‏,‏ أو التطفل عليها ومعك أيضا في أن من جراحات اللسان ما لا التئام له في بعض الأحيان على عكس جراحات "السنان" - أي السيوف - على حد تعبير الشاعر العربي‏,‏ لكني ادعوك من ناحية أخرى إلى التخفف من بعض حساسيتك الزائدة من تجاه هذا الأمر‏,‏ لأن ما لا حيله للمرء معه لا ذنب له عنه‏..‏ ولا عيب فيه‏.‏
ومادمت تحيا حياتك في وئام ووفاق مع زوجتك ويرعي كل منكما الله سبحانه وتعالى في عشرته للآخر‏..‏ فلتتجاور عن مثل هذا الفضول الذي كدر صفوك في بعض الأوقات‏,‏ ولتلتمس لأصحابه بعض العذر فيه باهتمامهم بأمرك وحبهم لك وحرصهم عليك‏..‏ حتى وإن أساء مثل هذا الاهتمام التعبير عن نفسه بالإلحاح عليك بالتساؤلات المحرجة‏..‏ فمثل هذا الفضول لن يستمر ولن يتواصل‏,‏ ولسوف يعرف أصحابه الآن أنه لا عائد له سوى تكدير القلوب القلوب المحرومة فيتعلمون درس التجربة‏..‏ ويتجنبون العودة إليه مرة أخرى‏.‏
ولقد أشرت إلى الكلمة الحكيمة التي ترددت في أعماقك بقوة حين علمت بنتيجة الفحص الجراحي‏:‏ ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك‏,‏ وهي من الحكم المعروفة‏,‏ لابن عطاء الله السكندري تاج الدين وترجمان العارفين‏,‏ الجذامي نسبا‏,‏ المالكي مذهبا‏,‏ السكندري دارا‏,‏ القاهري مزارا‏,‏ الصوفي حقيقة الشاذلي طريقة‏,‏ أعجوبة زمانه ونخبة عصره وأوانه المتوفي سنة تسع وسبعمائة هجرية كما وصفه‏,‏ ابن عجيبة وقد قال النفري الرندي‏:‏ في شرحه لهذه الحكمة التي تحمل رقم‏ 83‏ في سلسلة الحكم العطائية‏,‏ ربما أعطاك الله سبحانه وتعالى ما تميل إليه نفسك‏,‏ فمنعك التوفيق والطاعة والإقبال عليه‏,‏ وربما منعك منه أو من بعضه فأعطاك التوفيق والرضا والقبول‏,‏ وهكذا فقد يكون المنع في حقيقته عطاء والعطاء في جوهره منعا
فاسعد بحياتك الهانئة وزوجتك الفاضلة الوفية واشكر الخالق الكريم عطاءه‏..‏ وتجاوز عمن أساء إليك بغير تعمد والسلام‏.‏

 

 نشرت سنة 1999 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة
 راجعها واعدها للنشر / نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات