النصائح المسمومة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003



                       النصائح المسمومة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003 

النصائح المسمومة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003


ومن الناس من يعيشون بين البشر كأعواد الريحان تنشر الشذى الطيب حولها وتكتفي بالقليل من الماء والهواء‏..‏ وأمثال هؤلاء هم من عناهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بقوله‏:‏ يدخل الجنة أقوام أفئدتهم كأفئدة الطير‏,‏ أي في الطهارة والرقة وحب الخير للآخرين‏,‏ ومنهم من هم عكس ذلك . 

عبد الوهاب مطاوع



أكتب إليك لعلك تستطيع المساهمة في إصلاح نفوس البعض منا‏.‏
فأنا سيدة تزوجت زواجا تقليديا من رجل جاف الطباع‏,‏ وأنجبت ثلاث بنات وتمنيت بعدها أن يمن الله علي بولد لكي يعفيني من الكلام الجارح عن إنجاب البنات دون البنين‏,‏ فوهبني الله ابنا وحيدا‏,‏ أفرغت فيه كل عواطفي‏,‏ حتى أن بناتي كن يلومنني على التفرقة في المعاملة بينه وبينهن‏,‏ ودللته كثيرا حتى اتجه بكل عواطفه نحوي وابتعد عن والده بسبب حدته وصرامته معه‏,‏ ومضت بنا رحلة الحياة‏,‏ وبلغ ابني بداية مرحلة الشباب وبدأ يتطلع للفتيات من حوله وأنا أحترق غيظا منهن‏..‏ وأبعده عن زميلاته في الجامعة‏,‏ إلى أن نبض قلبه لشقيقة زميل له وأصر على الارتباط بها‏,‏ لكني أقنعته بأنها غير ملائمة له ففك ارتباطه بها وهو كاره لها‏,‏ ثم لم تمض شهور أخرى حتى ارتبط بغيرها وتزوجها‏..‏ وبذلت زوجة ابني الشاب في بداية زواجها منه جهودا مضنية لاجتذابنا إليها إلا أنني كنت أشعر في نفسي بمرارة شديدة لانجذاب ابني لها‏,‏ وكذلك كانت تشعر بناتي بنفس المرارة تجاهها لإعجاب أزواجهن بها‏..‏ فبدأت أحاول الإيحاء لابني بكثرة عيوبها‏,‏ واتهمها دائما بأنها قد أخطأت في كذا وكذا وكذا‏,‏ أو فعلت كذا وكذا مما لا يصح لها أن تفعله‏..‏ ولأن ابني عصبي بطبعه وحاد فلقد بدأت المشكلات تتصاعد بينهما‏..‏ وكلما أوشك بيتهما على الانهيار تدخلت بينهما وحثثته على الصبر علي بلائه وطالبته بالحفاظ على بيته حتى ولو كره ذلك من أجل طفله الصغير‏..‏ فيتردد ابني ويزداد حيرة في أمري‏,‏ وتوالت المشكلات بين ابني وزوجته‏,‏ وأنا مازلت على طريقتي معه في الإيحاء غير المباشر له بسوء زوجته‏..‏ ووصيتي الخادعة له بالصبر عليها في نفس الوقت‏,‏ والحق أنني "وأعترف لك بذلك" كنت نموذجا لما تسميه في ردودك بالأم المتوحشة التي تريد أن تستأثر بابنها لنفسها دون زوجته‏.‏

وقد وصلت محاولاتي معه إلى قمتها فوقع الانفصال بغير طلاق بينهما‏..‏ وهجرت هي بيت الزوجية ورجعت إلى بيت أهلها وبدأت  القضايا بينهما‏..‏ ودخلت أنا شقة ابني الوحيد بعد أن رحلت عنها المغتصبة مع طفلها‏,‏ وتملكني الشعور الغامر بالانتصار‏..‏ وأنني قد حميت ابني من الصراع المستمر الذي كان يكابده منذ زواجه واستعدته لنفسي بعد أن كان ممزقا بين زوجته وأمه‏,‏ وكنت خلال السنوات الماضية على خلاف مع أخي وصلتنا شبه مقطوعة‏,‏ ففوجئت به يتصل بي ذات يوم وينهي القطيعة معي‏,‏ ويعرض علي أن أرافقه في رحلة الحج عسى أن يغفر الله لنا ما كان من أمرنا‏..‏ فاستجبت لدعوته وسافرت معه لأداء فريضة الحج‏,‏ وغمرني الجو الروحاني في الأراضي المقدسة‏..‏ ثم سمعت ذات يوم في الحرم المكي خطبة عن صلة الرحم وواجب المؤمن في رعاية زوجته وأبنائه‏..‏ وكيف أن الطلاق هو أبغض الحلال إلى الله‏..‏ وأن قسوة القلوب ليست من الإيمان إلخ‏..‏ وبالرغم من أنها لم تكن المرة الأولى التي أسمع فيها مثل هذه المعاني الجليلة‏,‏ فلقد كان تأثري بها هذه المرة شديدا‏..‏ ورجعت إلى المكان الذي نقيم فيه وحاولت النوم ليلتها فلم استطع‏..‏ وتراءت لي صورة حفيدي يعاتبني على حرمانه من أبيه‏..‏ فنهضت وأديت ركعتين لله ودعوت الله سبحانه وتعالى أن يطهر قلبي من كل الشرور‏..‏ وانتهت رحلة الحج‏..‏ وعدت إلى مصر‏..‏ وتجنبت الحديث مع ابني عن زوجته‏,‏ وكلما هممت أن أوصيه خيرا بزوجته تذكرت وصايا الشر التي كنت أبثه خلالها سمومي‏..‏ فأصمت‏,‏ إلى أن جاء يوم واستجمعت إرادتي وذهبت إلى النادي في يوم العطلة حيث أعرف أن زوجة ابني تصطحب إليه طفلها كل أسبوع‏,‏ والتقيت بها‏..‏ واحتضنت حفيدي وجلست أتحدث إليها واستقبلتني زوجة ابني في البداية بتحفظ وهدوء‏..‏ لكني نجحت بعد قليل في أن أبث الطمأنينة في نفسها‏..‏ وأصررت علي أن أصطحبها معي في السيارة لتناول الغداء‏,‏ ولم تجد زوجة ابني مفرا من القبول‏,‏ وعدت إلى البيت وهما معي وفوجيء ابني بزوجته‏,‏ وبعد قليل أخذت الطفل معي إلى حجرة داخلية لكي أتيح لابني وزوجته أن يتحدثا على انفراد‏..‏ وتحدثا طويلا واتصلا بأهلها وكانت علاقتي بهم مقطوعة منذ زمن إذ كانوا يرون أنني قد أفسدت ابني بالتدليل حتى ساءت خلقه وأصبح يشتم زوجته ويضربها‏,‏ فتحدثت معهم‏,‏ وتحدثوا معي بتحفظ في البداية لكني طبت منهم أن أزورهم لنجمع شمل ابني وزوجته وننهي القضايا بيننا‏..‏ وذهبت إليهم ووجدتهم يعرفون جيدا دوري في إفساد الحياة بين ابني وزوجته وكيف أنني كنت بالفعل نموذجا للأم المتوحشة  المتملكة لابنها‏,‏ لكني تجاوزت عن كل ذلك واتفقنا على أسس سليمة للحياة‏,‏ كما اتفقنا على أن نجعل كتاب الله شهيدا علينا‏..‏ ورجعت زوجة ابني إليه‏,‏ ووجدتني أنظر إليها هذه المرة ليس كمغتصبة لابني مني‏,‏ وإنما كأم لحفيدي الجميل هذا‏,‏ وكزوجة لابني ترعاه وتحبه وتحمل اسمه‏,‏ ووجدتني أتغاضى عن هفواتها البسيطة‏,‏ وأصبر على توجسها مني إلى أن تطمئن إلي‏..‏ وطلبت من ابني ألا يروي أي شئ عن حياته الخاصة معها‏,‏ وألا يشر أحدا في أي خلاف عابر لهما‏..‏ وتعاهدا أمامي على ألا يبيت أحدهما غاضبا من الآخر دون أن يسوي أموره مع شريكه وتصفو له نفسه‏,‏ كما أصلحت بين بناتي وزوجة ابني‏..‏ وصرفت ابني عن أي عمل يضايق زوجته‏.‏

 

وبدأنا نلتقي حول مائدة الغداء الأسبوعية في بيتي ويتجمع كل الأبناء والأحفاد‏,‏ واكتشفت أن الدنيا جميلة وفيها متع كثيرة غير متعة الاستئثار بمشاعر الابن الوحيد دون زوجته‏..‏ وهدأ طبع ابني كثيرا بعد ذلك وبدأ وجهه يشرق بنور السعادة والاطمئنان‏,‏ وتفرغ لعمله دون منغصات‏,‏ وأنجب من زوجته طفله الثاني وكنت أنا من قامت بالنصيب الأكبر في خدمتها ورعايتها بعد الولادة‏,‏ ومنعت أمها من ذلك لأنها كانت مشغولة برعاية ابنة‏ أخرى لها أجريت لها عملية جراحية في ذلك الوقت‏..‏ ورجعت إلى الحديث كل يوم تليفونيا مع زوجة ابني كما كنت أفعل معها في بداية الزواج‏,‏ وأصبحت هي تخرج من عملها يوميا إلى بيتي قبل أن تذهب إلى بيتها فاستمتع برؤية الحفيدين العزيزين‏..‏ وأتذكر قول زوجي لي رحمه الله ـ إنني قد أفسدت ابني‏,‏ فأتمنى لو كان قد عاش ليرى كيف أنني قد عمرت بيت ابني بعد أن كنت قد أوشكت على هدمه‏,‏ والآن يا سيدي فإنني أرجو ألا يتصور أحد أنني قد خسرت شيئا بإقلاعي عن طباع الأم الشرسة‏,‏ فالحق هو أنني قد كسبت الكثير ولم أخسر شيئا‏,‏ فأنا مازلت الأم المتملكة لابنها‏..‏ لكن الاختلاف الوحيد هو أنني امتلكه بالحب الصادق وليس بالمؤامرات والوقيعة بينه وبين زوجته‏,‏ وامتلك أيضا زوجته التي صنعت مشاعرها لي والحفيدين الغاليين‏ .. وامتلك قبيلة كبيرة من البنات والأحفاد والحمد لله رب العالمين‏.‏ وكل دعائي هو أن يغفر الله سبحانه وتعالى ما كان من أمري ويعفو عني والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

في الحياة دائما متسع للجميع يا سيدتي ‏..‏ وفي قلوب أبنائنا كذلك متسع لنا ولمن يحبون بغير أن يتعارض ذلك أبدا مع وفائهم لنا وبرهم بنا‏,‏ غير أن المأساة تبدأ حين يتطلع البعض منا إلى ما لا حق لهم فيه‏..‏ وحين يضعون أنفسهم في تناقض لا مبرر له مع من يحب هؤلاء الأبناء ويسكنون إليهم‏..‏ وحين نطلب لأنفسنا أن نكون دائما في بؤرة الاهتمام الأولى لدى هؤلاء الأبناء قبل أي شئ آخر‏,‏ خلافا لحقائق الحياة وطبيعة كل مرحلة من مراحل العمر‏.‏

ولقد توقفت في رسالتك أمام سطورها الأخيرة التي تقولين فيها إنك بعد أن راجعت موقفك السابق من ابنك وندمت على نصائحك المسمومة له التي كادت تودي به وبأسرته الصغيرة إلى الانهيار‏..‏ وتخليت عن نظرتك الضيقة إلى الابن الوحيد وتطلعك السابق للاستئثار به دون العالمين‏,‏ حتى بعد أن تزوج وأنجب‏,‏ وتعاملت بالعدل والإحسان مع زوجته‏..‏ وصدقت نيتك في الحفاظ على أسرته قد اكتشفت أنك لم تخسري شيئا‏,‏ بل كسبت الكثير والكثير‏..‏ إذ إنك مازلت تملكين ابنك‏..‏ لكنك تملكينه بالحب الصادق المبرأ من الأثرة والأنانية‏..‏ وبغير أن يكون هذا الابن شقيا في حياته الخاصة ولا ممزقا بين أمه وزوجته‏,‏ وتملكين إلى جواره من كنت تناصبينها العداء قبل ذلك وتعتبرينها مغتصبة له منك .. فإذا بك قد أضفت إلى بناتك الثلاث ابنة رابعة‏,‏ لم تحمليها وهنا على وهن .. كما تملكين حفيديك وحب من هم حولك‏,‏ وتملكين ما هو أهم من كل ذلك وهو سلام النفس وطمأنينة القلب وراحة الضمير بعد أن تخلصت من شر نفسك‏..‏ وأدركت أن سعادة الآباء والأمهات الحقيقية ليس في أن يستأثروا بأبنائهم دون شركائهم في الحياة‏,‏ وإنما في أن يسعد هؤلاء الأبناء بحياتهم مع شركائهم فيسعد الآباء والأمهات بسعادة وينعمون بالشيخوخة الآمنة بغير منغصات‏.‏

والفارق بين الحالين هو نفسه الفارق بين فساد النية وإخلاصها‏,‏ فلقد كنت تنصحين ابنك في السابق بأن يصبر على بلائه وألا يفرط في زوجته وطفله‏..‏ وتوحين له في نفس الوقت بعيوبها وتفسدين عليه مشاعره تجاهها‏,‏ لأن النية في ذلك لم تكن خالصة وكانت النصائح ـ كما  تعترفين ـ مسمومة وتهدف إلى غير ظاهرها‏..‏

ثم أصبحت الآن تحرصين على سعادته صدقا وحقا وتنصحينه بألا يسئ عشرة زوجته وألا يظلمها معه‏..‏ لكن النية صادقة هذه المرة‏,‏ لهذا أثمرت النصيحة ثمارها الطيبة‏..‏ ورفرفت السعادة على حياة ابنك وزوجته وطفليه‏..‏ ولقد ذكرني ذلك بما قاله إمام البغدادي وعالمهم الورع سري السقطي ناصحا ابن شقيقته الإمام الجنيد‏:‏ أحذر أن تكون ثناء منشورا وعيبا مستورا‏..‏

ولقد كنت أنت يا سيدتي في مرحلة الأثرة والأنانية ثناء منشورا تنصحين ابنك بالحفاظ على أسرته‏..‏ وعيبا مستورا توحين له بعيوبها في نفس الوقت فتحرضينه عليها‏.‏
ومن الناس من يعيشون بين البشر كأعواد الريحان تنشر الشذى الطيب حولها وتكتفي بالقليل من الماء والهواء‏..‏ وأمثال هؤلاء هم من عناهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بقوله‏:‏ يدخل الجنة أقوام أفئدتهم كأفئدة الطير‏,‏ أي في الطهارة والرقة وحب الخير للآخرين‏,‏ ومنهم من هم عكس ذلك ولقد أصبحت أنت يا سيدتي ممن ينشرون شذى المحبة والوئام حولهم بعد أن كان من قبل غير ذلك والحق أننا نحتاج دائما لأن نتوقف من حين لآخر لكي نراجع مواقفنا من الحياة والآخرين ونعترف‏ بأخطائنا ونقلع عنها ونحسن من أنفسنا ومن سلوكلنا في الحياة كما فعلت أنت ذلك فخرجت من دياجير الكراهية والأنانية والأثرة إلى ضياء المحبة والخير والعدل والسلام النفسي‏.‏

وقديما قال أحد الصالحين‏:‏ إني لأنظر في المرآة كل يوم مخافة أن يكون قد اسود وجهي‏!‏
أي مخافة أن يكون قد أسود وجهه من وطأة آثامه وخطاياه وأخطائه المقصودة وغير المتعمدة‏ .. كما روي ابن عباس أنه دخل على العظيم عمر بن الخطاب بعد أن طعنه قاتلة وهو مضجع على وسادة من أدم وعنده جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏,‏ فقال له رجل‏:‏ ليس عليك بأس‏,‏ فقال عمر لئن لم يكن علي اليوم لتكونن بعد اليوم‏,‏ أن للحياة نصيبا من القلب وأن للموت لكربة‏..‏ ولقد تركت زهرتكم كما هي ما لبستها فأخلقتها‏,‏ وثمرتكم يانعة في أكمامها ما أكلتها وما جنيت ما جنيت إلا لكم‏,‏ وما تركت ورائي درهما ماعدا ثلاثين أو أربعين درهما‏،  ثم بكي وبكي معه الناس فقال له ابن عباس‏:‏ يا أمير المؤمنين أبشر فوالله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض ومات أبو بكر وهو عنك راض‏,‏ وأن المسلمين لراضون عنك‏,‏ فلما ثقل عمر طلب من ابنه عبد الله أن يضع خده على الأرض فكره عبد الله أن يفعل ذلك‏,‏ فوضع عمر خده على الأرض وقال‏:‏ ويل لعمر ولأم عمر إن لم يعف الله عنه‏!‏

فإذا كان هذا هو شأن عمر وهو من هو أعظم  فضلا وتقوى وعدلا وسابقة‏,‏ فكيف نمضي نحن في الحياة سادرين في غينا بغير أن نتوقف لنراجع أنفسنا فيما نفعل ونقلع عن الأخطاء‏..‏ ونندم عليها؟
لقد توقفت أنت ذات مرة فكان ما كان من أمرك‏,‏ فكيف يكون الحال إذا تذكر الجميع ثقل المسئولية وكربة الموت‏..‏ وراجعوا أنفسهم فيما يفعلون قبل فوات الأوان؟‏!‏

 نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 2003

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي



Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات