الضوء الأخضر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
إنني لا أفضل أبدا أن تتزوج بنت أو ابن على غير إرادة أبويه إلا في حالات نادرة وللضرورة القصوى، حين يتأكد لكل ذي عقل شطط الأبوين وبعدهما عن الإنصاف.. كما أنني دائما من أنصار مبدأ التكافؤ بين الزوجين بكل صوره المادية والاجتماعية والثقافية، وفي السن بقدر الإمكان، لكني من ناحية أخرى ضد الترفع على الآخرين وإطلاق الأحكام المتعجلة عليهم بأنهم ليسوا أكفاء لنا، لأن هذا المقياس فضفاض ويعكس نظرة طبقية سخيفة نحن في غنى عنها والحق أني أعتبر التكافؤ الثقافي والاجتماعي أكثر أهمية من التكافؤ المادي في نجاح الزواج واستمراره.عبد الوهاب مطاوع
أنا يا سيدي
زوجة منذ ربع قرن، حاصلة على الدكتوراه وأعمل في معهد للبحوث، وكان زوجي مديرا
لأحد البنوك المعروفة، وقد تزوجنا وعشنا في سعادة غامرة في فيللا في مصر الجديدة
وأنجبنا ولدا وبنتين، وتخرج الابن وأصبح مهندسا ناجحا، أما الابنة الكبرى وهي لب
المشكلة فقد التحقت بكلية نظرية رغم مجموعها الكبير الذي كان يؤهلها للالتحاق
بكلية الطب، ووافقها والدها على رغبتها في ذلك لأنها كانت الابنة الجميلة المدللة
التي تجاب مطالبها بلا مناقشة واشترى لها سيارة تذهب بها إلى الكلية.
وكان الخطاب
من ذوي المراكز يتسابقون لطلب الزواج منها فرفضت الجميع، وعندما تخرجت في الكلية
وقعت الطامة الكبرى، حين أتت إلينا بزميل من الكلية لا يناسب مستواه الاجتماعي
مستوانا، وحزن والدها وحزنا جميعا لهذا الاختيار، واجتمع الأقارب لإقناعها بالعدول
عن قبول هذا الزواج الذي سينقلها إلى بيت قديم في حي شعبي تملكه والدة الزوج،
لكنها أصرت على أن الحب والتفاهم هما أساس الزواج السعيد، وأن نقص الإمكانيات
المادية لدى الزوج لا يغير من الأمر شيئا، وأنها لا تستطيع أن "تفصل"
لنا عريسا أمه حاصلة على الدكتوراه ووالده
مدير بنك، وهددها والدها بقطع علاقة الأسرة بها إذا تزوجت زميلها، فركبت رأسها ولم
تعبأ بشيء، وقالت أيامها إن زوجها على اتصال بقريب له يعمل في إحدى الدول العربية
وأنه سوف يرسل إليهما ليعملا هناك في وظيفة راتبها كبير، وتم الزواج وودعناها
بالدموع، وأخذها أهل زوجها وفي أعينهم لمعة الانتصار، وسحب زوجي منها السيارة،
وبعد أسبوع من الزواج سقط زوجي مريضا بالشلل، ونفذت هي وعدها فلم تهتم بأخبارنا أو
بالاتصال بنا وأصر والدها على إنهاء دراسة أختها الصغرى بعد الثانوية العامة
وخطبها لابن أخيه لكي لا تتكرر المأساة.
لكني أعود فأقول لعل في هذه الرسالة ما يفتح
عيون طالبات الجامعات إلى أن حب الزمالة ما هو إلا جري وراء العواطف المشبوبة دون
الرجوع إلى العقل والتفكير السليم، والسلام عليكم ورحمة الله..
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لقد كنت أتصور
يا سيدتي أنك ستكتبين هذه الرسالة بقلب الأم، لتناشدي زوجك أن يرفع الحظر عن
الاتصال بابنتك بعد أن مر عامان على زواجها وأنجبت طفلا وأصبح زواجها أمر واقعا،
أو لتناشدي ابنتك أن تبدأ هي الخطوة الأولى كما ينبغي للابنة دائما فتهرع إلى
أبيها المريض لتطلب منه العفو والسماح والاعتراف بزواجها، بعد أن هدأت المشاعر
واستقرت الأوضاع، لكني فوجئت في نهاية رسالتك بهذا "النداء" الذي يطالب
طالبات الجامعات - كما فهمت منه - بألا يتزوجن إلا من القادرين وحدهم وإلا كان
الزواج جريا وراء العواطف دون الرجوع للعقل والتفكير السليم!
فهل هذا ما
تريدينه حقا يا دكتورة؟ من أين نأتي إذن بكل القادرين اللازمین ليتزوجوا من طالبات
الجامعات؟ وماذا نفعل بملايين الشباب المكافحين الذين يبدأون حياتهم بغیر سلاح
موروث عن الأسرة أو العائلة.
إنني لا أفضل
أبدا أن تتزوج بنت أو ابن على غير إرادة أبويه إلا في حالات نادرة وللضرورة
القصوى، حين يتأكد لكل ذي عقل شطط الأبوين وبعدهما عن الإنصاف.. كما أنني دائما من
أنصار مبدأ التكافؤ بين الزوجين بكل صوره المادية والاجتماعية والثقافية، وفي السن
بقدر الإمكان، لكني من ناحية أخرى ضد الترفع على الآخرين وإطلاق الأحكام المتعجلة
عليهم بأنهم ليسوا أكفاء لنا، لأن هذا المقياس فضفاض ويعكس نظرة طبقية سخيفة نحن في غنى عنها
والحق أني أعتبر التكافؤ الثقافي والاجتماعي أكثر أهمية من التكافؤ المادي في نجاح
الزواج واستمراره، لذلك فإني قد ألومكما لأنكما طبقتما المعيار المادي وحده فيما
أتصور في الحكم على زوج ابنتك بأنه غير مكافئ لها، وبالتالي في رفض الزواج
والإصرار على ذلك، بعد أن بدا واضحا أن ابنتكما لن تتراجع عنه.
يا سيدتي إن من واجبنا أن ننصح أبناءنا وأن نطلب
لهم ما نعتقد أنه يحقق لهم السعادة، وأن نبذل كل جهدنا لإقناعهم بذلك.. لكنه ليس
من حقنا في النهاية أن نرغمهم على ما نريده لهم من خير بعد أن يبلغوا من أمرهم
رشدا، لأنهم مسئولون عن حياتهم في نهاية الأمر، ولقد أدينا واجبنا تجاههم ولم نقصر
في حقوقهم، فلا لوم علينا إذا ما اختاروا ما لم نختره لهم، ولا ينبغي أن يكون ذلك
سببا للقطيعة والجفاء، وفي حالتكم بالذات فهذا هو آخر ما كان ينبغي أن تتوقعاه،
لأنكما دللتما ابنتكما كثيرا طوال حياتها.. فكانت كما تقولين الابنة التي تجاب
مطالبها دون مناقشة، ومثل هذه التربية لا تثمر إلا شخصية لا تطيع أبويها إذا
اصطدمت إرادتها مع إرادتهما.. لذلك فإني ألومكما أولا وألوم ابنتكما أيضا لأنها لم
تواصل الحوار مع أبيها ومعك لإقناعكما بالزوج الذي اختارته ولم تبذل كل جهدها
للحصول على موافقتكما وسارعت بالزواج رغم تهدیدات أبيها، ولو فعلت لاضطررتما في
النهاية إلى التسليم برغبتها.
كما إني لا أقرها أبدا على
جريمتها في حق أبيها بالابتعاد عنه وعدم الاهتمام بأخبار أسرتها طوال هذين العامين
رغم كل شيء.. فلقد كان من واجبها أن تسعى إليه مهما كان من رفضه لزواجها، لا سيما
بعد أن سقط مريضا لتطلب منه العفو والسماح والاعتراف بزواجها كأمر واقع، وبأن يقبل
زوجها عضوا في أسرتها مع إحاطته بالاحترام الكافي، لأنه لم يرتكب جريمة حين أحب ابنتكما
وتزوجها. وفي ظني أنها لو فعلت ذلك لما تمسك أبوها طويلا بموقفه، ولتغلبت عليه
عاطفته الأبوية في النهاية ولانتهت القطيعة والجفاء، لكني قد أتصور أيضا أن ابنتك
ربما تخشى من رفض أبيها لها ولزوجها إذا ما جاءت إليه.. وهنا يأتي دورك في إقناعه
بالسماح لها بأن تأتي إليه طالبة عفوه.
أما أنت أيها
الأب الحزين فإني أقول لك في النهاية إن أصحاب القلوب الحكيمة هم وحدهم من
يستطيعون تقبل الهزيمة الشخصية بواقعية وروح رياضية، ولا يسمحون لها بأن تفسد
قلوبهم بالمرارة.. ولك من تجربتك في الحياة ما يقنعك بأن الحياة هزائم وانتصارات.
وليست انتصارات ولا نجاحات على طول الخط، وكما نتقبل من الحياة انتصاراتنا الشخصية
ونسعد بها، علينا أيضا أن نتعلم كيف نتقبل هزائمنا الشخصية عند الضرورة.. ولا
نتوقف عندها كأنها نهاية الدنيا، لقد خسرت هذه المعركة بين إرادتك وإرادة ابنتك
وانتهى الأمر، وتزوجت ابنتك وأنجبت حفيدا لم تره حتى الآن.. فلماذا تخسر ابنتك
نفسها.. وهي في النهاية ابنتك وقد تزوجت على سنة الله ورسوله.. وليست جريمة أنها
تتقاضى راتبا كنت تعطيه لها مصروفا شخصيا.. ولا هي جريمة زوجها أنه أخفق في العمل
في الخارج.
والسعادة في
النهاية مسألة خاصة من شأن أصحابها وحدهم.. فلماذا تعذب أنفسنا.. بما لا حيلة لنا
فيه.. ولماذا إذن لا تعطي الضوء الأخضر لابنتك لكي تعود إليك.. وتعيد أيامكم
السعيدة معا، لعل في ذلك ما يخفف عنك آلام المرض ولعلك ترى في حفيدك سر تواصل
الحياة وجريانها كالنهر الذي لا يقف في طريقه شيء.. أفعل يا سيدي وتمتع.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر