رسالة من الباب الخلفي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
وهكـذا الحياة يـا صديقي .. نجري وراء أشياء .. فـإذا بلغناها نكون قد فقدنا في الطريق أشياء جوهرية لا تعوض وفقدنـا القدرة على الاستمتاع بما حصلنا عليه.عبد الوهاب مطاوع
أكتب
إليك من الإسكندرية لأحدثك أو لأحدث نفسي بما يدور في خاطري .. حيث اعمل الآن في
عمل جديد يتطلب مني إسعاد الآخرين كل ليلة حتى الهزيع الأخير من الليل .
ولعلك قد عرفتني .. فأنا ذلك الفنان الذي اصطلح
النقاد على أن يسموه بالفنان الكوميدي الضاحك الذي ينتزع الضحكات من الثكالى
بتعبيرات وجهه وتمثيله الصادق .. والذي قالوا عنه إنه يقدم فنا راقيا لا تهريج فيه
.. وكم كان يسعدني أن اقرأ هذه الكلمات عني .. لولا أن مرت بحياتي أهوال فقدت معها
القدرة على الإحساس بطعم أي شيء . وبجدوى أي شيء ..
وهكذا الحياة يا صديقي .. نجري وراء أشياء .. فإذا
بلغناها نكون قد فقدنا في الطريق أشياء جوهرية لا تعوض وفقدنا القدرة على
الاستمتاع بما حصلنا عليه.
وأنت تعرف بدايتي .. وتعرف تأثير النشأة الصعيدية
علي .. وأنني من أسرة صغيرة وأني كافحت كفاح الأبطال لكي أتعلم والتحق بالجامعة ..
ثم لكي أجد عملا .. وأتزوج ، وسأعبر هذه المراحل سريعا لأقول لك : إنني وجدت نفسي
في منتصف العمر .. متزوجا من زوجة طيبة أصيلة وأبا لثلاثة أبناء أكبرهم طالب
بالكلية الحربية وأصغرهم بالمدرسة الابتدائية ومازلت أكافح لأجد لقدمي موضعا في
العالم السحري الذي اخترت العمل فيه وهو المسرح ، وأنت تعرف قصص الباب الخلفي
للمسارح أي باب الممثلين .. وتعرف كم يشقى الإنسان ليدخل منه إلى خشبة المسرح ..
وكيف يجمع هذا الباب بين النجوم اللامعين الأثرياء
.. وبين المغمورین البسطاء الذين قد لا يجدون في بعض الأحيان قوت أطفالهم .
كنت موظفا حكوميا صغيرا .. فاحتفظت بوظيفتي أمانا
ضد الفقر وركزت جهدي في الباب الخلفي أخرج من باب لأدخل بابا باحثا عن فرصة ،
وكانت البداية صغيرة .. دور ضابط شرطة يدخل خشبة المسرح بعصبية ليلقي القبض على
بطل المسرحية النجم اللامع في نهايتها .. واذكر الليلة التي بدأت بها طریقي کنت
واقفا خلف الكواليس انتظر لحظة الدخول وقد تجمعت في صدري كل همومي .. ومر أمامي
شريط كفاحي الذي طال بغير بادرة أمل في الوصول إلى الراحة .. كانت مطالب الحياة
قاسية .. وأسرتي الصغيرة تعاني من ضيقها ما أعاني ، وأحسست فجأة بالخجل من أن
يرانی بعض من يعرفوني من الزملاء وأنا أؤدي هذا الدور الصغير وأحسست برغبة في
الاختباء .. فإذا بيدي ترتفع إلى "كاب" الشرطة الذي أرتديه فتشده إلى
عيني ليخفي نصف وجهي وجاءت لحظة الدخول فدخلت بعصبية والكاب يخفي عیني وأنا أتخبط
بين الممثلين لا أرى شيئا .. فإذا بالمسرح يضج بالضحك .. وإذا بنجم المسرحية
اللامع يضحك من قلبه ثم يجد في هيئتي الغريبة مادة للضحك والإضحاك وفي ختام
المسرحية حين رفعت الكاب عن وجهي حياني الجمهور لأول مرة في حياتي .. ثم إذا بهذا
المشهد العفوي يتحول إلى مشهد أساسي كل ليلة وتزداد مساحته الزمنية من 3 دقائق إلى
عشرين دقيقة كاملة وإذا بلحظة الضيق من حياتي وتفاهة شأني تتحول إلى لحظة ميلاد ،
فشاركت بعد هذه المسرحية في أعمال كثيرة .. وأديت أدوارا كبيرة .. وتحسنت ظروف
الاجتماعية شيئا فشيئا وارتفع اجري ، وتحسنت ظروف أسرتي .. واشتريت سيارة بسيطة
ومع كل خطوة من خطوات طريقي كانت هي تقف معي وورائي .. زوجتي الطيبة سمحة النفس
والوجه .. التي ما شكت يوما ضيق الحال .. ولا وعورة الطريق .
وكانت تحرص دائما على أن تحضر حفلات الافتتاح
لتراني .. وكلما رأت مساحة دوري تزيد سعدت وأحست بالفخر .. وكلما رأت البنط الذي
يكتب به اسمي على واجهة المسرح يضخم شيئا فشيئا أحست بالانتشاء وكلما حياني
الجمهور أو ضحك لتمثيلي تلفتت حولها فخورة كأنها تقول للجميع إنه زوجي .
ومضت الأيام تقترب بنا من حافة السعادة وتحقيق الآمال
إلى أن جاء صيف
ودعيت للتمثيل في مسرحية تعرض في الإسكندرية وبدأت البروفات ، فإذا بزوجتي الحبيبة
تسقط مريضة وتدخل غرفة الإنعاش بمستشفى المعادى .. وإذ بي أجدني كل يوم مضطر
للبقاء بجانبها حتى الظهيرة ثم أركب سيارتي لأنطلق إلى الإسكندرية الأصل إلى
المسرح في المساء وأعود لأسافر إلى القاهرة في الثالثة صباحا .. وإذا بي أعيش
أياما مع الأمل .. وأياما مع اليأس .. وفي كل الحالات أجدني كل مساء واقفا على
خشبة المسرح أؤدي دوري فأنتزع الضحكات رغما عني .. وأنا كما تعرف من القلائل في
عالم المسرح الكوميدي الذين لا يبتسمون أبدأ على خشبة المسرح .. وتتسم
"فورمة" وجهي بأنها تراجيدية حزينة ومع ذلك تثير الابتسام ، ولعل ذلك ما
ساعدني على أن استمر في عمل فيما بعد.
فلقد توالت على المتاعب ..
فانقلبت بي السيارة وأنا في طريقي إلى القاهرة مع ابنتى لنزور زوجتي في المستشفى
بعد أن طلبت الزوجة رؤية ابنتها ونجونا من الموت والإصابة بقدر الله جل شأنه ، ثم
توالت الفصول .
فإذا بوطأة المرض اللعين
تشتد على زوجتي وإذ بها تتركني فجأة وأنا في منتصف الطريق .. فلا نجومية حققت .. ولا اسما فذا صنعت .. ولا ثروة جمعت .. ولا شيء
سوى العدم .. والفراغ ونصف حياتي قد تخلى عني .. وأتجاوز هذا الفصل الحزين سريعا
.. لأقول لك إني أيضا دخلت نفس غرفة الإنعاش التي دخلتها زوجي .. بعد أن كادت
أنفاس الحياة تنقطع عني .
والحبوب في جيبي
أتناولها تحت اللسان كل ما أخشاه أن يغمى علي ذات ليلة فوق خشبة المسرح فيتعطل
العمل ثم يشيع في الوسط الفني أني مريض جدا .. فلا يطلبني أحد في عمل بعد ذلك ..
ويتوقف آخر مصدر لرزقي بعد أن تركت الوظيفة الحكومية حين استقرت خطواتي فوق المسرح
.. ويضيع آخر أمل لي في الجراحة.
وأنت تسألني ماذا أريد .. فأقول لك إني أريد أن
أسألك ما معنى الحياة حين نشقى فلا نصل إلى ما نريد .. ولماذا يكافح البعض كفاحا
داميا ثم لا يصلون إلى شيء مثلي بل يخسرون خلال الطريق أشياء لا تعوض في حين يصل
آخرون إلى أكثر مما تمنوا وبأقل قدر ممكن من العناء وهل هذه الحياة عادلة في
اختيارها البعض للشهرة والثراء .. والبعض الآخر لكي يعيشوا حياتهم مغمورين تعساء ؟
إنني أعرف أني ألقى عليك أسئلة لا جواب لها
.. لكني كنت في اشد الحاجة إلى من يشار کنی همومي التي لا يراها أحد غيري ووقع
اختياري عليك فكانت هذه الرسالة والسلام .
ولصدیقی کاتب هذه الرسالة أقول :
صدقت وأنت صادق دائما حتى في آلامك حين قلت أنها
أسئلة بلا أجوبة .. فهي نوع من حديث النفس للنفس التماسا للسلوى والعزاء .. وليست
التماسا لأجوبة محددة .. فكثيرا ما نسأل أنفسنا مثل هذه الأسئلة فلا نجد جوابا ..
وقد لا نجد العزاء أيضا على أن تجربة الحياة تقول لنا أن لكل إنسان نصيبه في
الدنيا .. وأن الأقدار قد تتساوى في النهاية إلى حد كبير .. وأن لا ينبغي أن نحكم
على الآخرين بمظاهرهم الخارجية فمن قد تظنهم سعداء .. قد يكونون أتعس مما نظن ..
ومن نظنهم تعساء قد تكون لهم سعادتهم الخاصة التي لا ندرك عمقها .فالسعادة مسألة
نسبية يا صدیقی .. وما يسعد إنسانا قد لا يرضي غيره ، وأنت شخصيا أصدق مثال على
ذلك فمن يراك وأنت تضحك الثكالى كل ليلة قد يحسبك إنسانا لاهيا سعيدا تنام قرير
العين بما حققت من نجاح ، ولا يعرف أحد ماذا تخفي القلوب . لكنك من ناحية أخرى
ربما لو قارنت نصيبك من الدنيا والنجاح بنصيب غيرك من التعساء لربما وجدت لنفسك
بعض العزاء .. وقد يكون بينهم من كافح مثل كفاحك وربما أكبر ، وفي الحياة متناقضات
كثيرة لا يتسع المجال لحصرها .. ومن متناقضاتها أن تأتي أحيانا ثمرة الكفاح المضني
بعد أن يكون الإنسان قد فقد حتى القدرة على الاستمتاع بالنجاح أو المال .. أو
الشهرة .. وقد لا تأتي وهو على قيد الحياة أصلا .. فهل تدري مثلا أن آخر عبارة نطق
بها الفنان العالمي فان جوخ وهو يموت لشقيقه "ثيو" كانت : لو
أنك استرددت حتى ثمن أدوات الرسم التي اشتريتها لي ؟ وكان شقيقه يعمل عارضا للوحات ويعول شقيقه في أيامه الأخيرة ، ومات
فان جوخ بغير أن يبيع لوحة واحدة من أعماله ، ثم مضت سنوات بعد وفاته فإذا بلوحاته
تباع بعشرات الألوف .
أو تدري مثلا أن الفليسوف الألماني شوبنهاور قد أمضى حياته في البحث والدرس والتأليف وهو مغمور مجهول حتى شارف السبعين ، فإذا بشهرته تدوي في العالم وينهال عليه التمجيد والتكريم بعد أن فقد حتى القدرة على الاستمتاع بالنجاح فقال : بعد أن عشت عمري كله وحيدا منسيا بين الناس .. جاءوا فجأة | يودعونني إلى قبري بالطبول. إنها أمثلة كثيرة يا صديقي .. ولا أحد يملك مصيره .. ولا أحد يعرف أين سعادته الحقيقية فربما كان ما نشكو منه الآن هو أفضل أيامنا بالمقارنة مع ما يخفيه الغيب ، فلنتعامل مع حياتنا كما هي .. ولنسعد بما أتيح لنا من قدر محدود أو غير محدود من الأسباب . ولننظر إلى غدنا دائما بقلب يخفق بالأمل .. وأتجاوز هذه النقطة لأتحدث عن صحتك و أقول لك أن عليك أن تتقدم بطلب إجراء جراحتك على نفقة الدولة سواء في مصر أو الخارج مادمت غير قادر على تحمل نفقات الجراحة .. وهذا حقك كمواطن سواء أكنت مشهورا أم مغمورا .. فالمقياس هو العجز عن تحمل النفقات وليس الشهرة أو النجومية .. بل لعل ذلك أكثر تأكيدا لحقك في العلاج لأن النجم أقدر على تحمل نفقات علاجه ، فأطرح اليأس جانبا .. وتقدم إلى المجالس الطبية أو زرني لنبحث معا الأمر .. ولسوف تبتسم لك الحياة من جديد .. ولسوف تكمل مشوارك الناجح إلى أقصى مداه بإذن الله ..
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر