كان إنساناً !.. بقلم عبد الوهاب مطاوع كتاب الرسم فوق النجوم
مازال هذا الكتاب الصغير يصاحبني في أسفاري إلى الخارج منذ دخل "الخدمة" عندي قبل سنوات!
فأنا أقرأ بصفة منتظمة منذ اخترت طريقي في الحياة، فأقرأ طلباً للمعرفة، وبحثاً عن إجابات لأسئلة محيرة .. كما أقرأ كذلك للمتعة الخالصة، وأتذكر دائماً كلمة العملاق العقاد: ليس هناك كتاب أقرؤه ولا أستفيد منه، فحتى الكتاب التافه أستفيد منه بأن أعرف كيف يفكر الكُتَّاب التافهون وفيم يكتبون؟
لكني أقع من حين إلى آخر على كتاب أستريح له أكثر من غيره فأعيد قراءته أكثر من مرة وأضعه إلى جوار فراشي لأرجع إليه في ليالي الأرق التي أحتاج فيها لأن أقرأ شيئاً لا ينبه مشاعري فيبعد عني شبح النوم.
فإذا استعددت لسفر إلى الخارج اخترت كتابين أو ثلاثة كتب جديدة لأقرأها خلال الرحلة لأول مرة، واخترت معها كتاباً من كتب "الخدمة المستمرة" الموضوعة إلى جوار فراشي .. لأرجع إليه وأعيد قراءة فصوله حين أشعر بالملل، وقد لاحظت أن هذا الكتاب يتغير في أسفاري الداخلية والخارجية كل بضع سنوات .. فلقد يصاحبني كتاب منها عاماً أو عامين .. وقد يصاحبني كتاب آخر عامين أو ثلاثة حسب الأحوال، وفي بعض المراحل كان لا بد لي من أن أصطحب معي رواية أو مجموعة قصصية لأديبنا الكبير نجيب محفوظ، مع أني قرأت كل أعماله فور صدورها أكثر من مرة، وأستطيع أن أؤدي امتحاناً فيها جميعاً وأجتازه بغير رسوب .. وفي فترة أخرى عشقت كتاب "خليها على الله" للأديب العظيم يحيى حقي .. فاصطحبته معي في كل أسفاري لمدة 4 أو 5 سنوات، وفي مرحلة لاحقة حلَّ كتابه الجميل "كناسة الدكان" محل سابقه .. وانتزع منه موقعه من حقيبة السفر، كما جاء الدور في بعض المراحل على الرواية الجميلة "ترانيم في ظل تمارا" للأديب المبدع الراحل محمد عفيفي.
لكنه كما تتغير الأيام، يتغير الكتاب "النوبتجي" الذي أمد يدي إليه لا إرادياً كلما هممت بالسفر لأضعه في حقيبتي إلى جوار الكتب الجديدة، فكأنه كتاب الدهر الذي لا أملّ الرجوع إليه كلما ضاقت نفسي .. أو كأنه "كتاب مفتوح" بصفة دائمة ينتظر الانتهاء من قراءته وإغلاقه، وكلما فعلت ذلك تذكرت ما رواه الفنان العالمي شارلي شابلن في مذكراته من أنه اشترى كتاباً بعنوان "مقالات في الفلسفة" ووضعه إلى جوار فراشه فظل 40 عاماً يقرأ فيه من حين لآخر بضع صفحات دون أن يقرأه كاملاً مرة واحدة في حياته، أو أتذكر ما رواه أيضاً الزعيم الهندي جواهر لآل نهرو من أنه اعتاد أن يقرأ في أربعة كتب في وقت واحد فيقرأ فصلاً من هذا وفصلاً من ذاك، فكانت النتيجة أن استغرق أحد الكتب منه 5 سنوات لكي يقرأه كاملاً.
ولا عجب في ذلك فهناك بالفعل كتب مفتوحة في حياة الإنسان قد لا يغلقها طوال العمر .. وفي حياتي الشخصية فإن الكتاب المفتوح بصفة دائمة هو القرآن الكريم الذي "أنظر" فيه من حين لآخر دون أن أصل أبداً إلى الشاطيء الآخر لبحره العميق .. وكثيراً ما تذكرت وأنا أحاول فهم بعض معانيه، ما رواه الشيخ ابن سينا من أنه قرأ ذات يوم كتاباً عما وراء الطبيعة فلم يفهمه فقرأه 40 مرة حتى حفظه عن ظهر قلب ولم يفهمه أيضاً، فيئس منه ثم خرج إلى السوق فرأى بائعاً يعرض عليه كتاباً .. فرفضه بجفاء فقال له البائع: إن الكتاب رخيص وإن صاحبه في أشد الحاجة إلى ثمنه فاشتراه كارهاً ورجع إلى البيت فإذا به كتاب للفيلسوف الفارابي في شرح الكتاب الصعب الذي استغلق عليه فهمه، وقرأه متردداً فإذا به يفهم كل ما عجز عن فهمه من الكتاب الصعب فغادر بيته وتصدّق على الفقراء ابتهاجاً بفهمه له!
واصطحبت معي في سفري هذه المرة رواية "نقطة النور" للروائي المبدع الصديق الأستاذ بهاء طاهر، واكتشفت أنها صدرت في يناير من هذا العام .. وأنه أهداها لي فور صدورها، لكني لم أرها إلا منذ ثلاثة أسابيع فقط، فلقد كنت حين أهداها لي غائباً في سفر طال شهرين في أمريكا، وتراكم البريد خلال غيابي، فلم تقع عيناي على هذه الرواية سوى مؤخراً، ودهشت حين قرأتها .. وأسفت لتأخري في اكتشافها ما يقرب من عشرة شهور، فهي تحفة فنية بالفعل .. بل لعلها من أجمل أعمال بهاء طاهر إن لم تكن أجملها على الإطلاق، ذلك أنها من هذا النوع من الأدب الذي قال عنه أحد النقاد وهو يصف بعض أعمال تشيكوف، إنه يُشعر الإنسان خلال قراءته بالمتعة .. والحزن!
فلعلي أستطيع أن ألخصها لك ذات يوم ..
كما اصطحبت أيضاً مسرحية الكاتب الإيطالي الفائز بجائزة نوبل عام 1997، داريو فو، وهي مسرحية "موت فوضوي قضاءً وقدراً" من ترجمة الدكتور محمود علي مراد، وكتاب "قراءات ومشاهدات" للأديب الكبير الأستاذ ثروت أباظة، أما كتاب الخدمة المستمرة فقد كان كتاب "التكوين" الذي يضم سيراً ذاتية لعدد من المفكرين والأدباء بأقلامهم.
وكعادتي فلقد بدأت بقراءة الجديد، ورجعت كلما وجدت الفرصة إلى الكتاب القديم، وفي كل مرة أرجع فيها إلى هذا الكتاب الصديق أجدني أتوقف غالباً أمام نفس الصفحات التي استوقفتني فيه من قبل وأعيد قراءتها من جديد كأنما أذكر نفسي بها وأخشى أن تضيع من الذاكرة.
ففي الفصل الذي كتبه الناقد الكبير وأستاذ الأدب العربي الراحل شكري عياد توقفت مرة أخرى أمام دروس الحياة التي علمتها له تجاربه وأمام قوله:
"تعلمت أولاً أن أثق برحمة الله وبلغت من هذه الثقة حداً يقترب من الوهم بأن الله يوليني أنا بالذات عناية خاصة، وما أنقذني من هذا الغرور إلا آيتان كريمتان:
فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ
.. واحسبني ما كنت أستطيع أن أمضي في الحياة لولا الشعور المبهم بحضور شخصي لله في حياتي، لكن ذلك الاعتقاد لو بلغ حد الاعتقاد بأن الله أفردني باللطف من دون سائر خلقه لفسدت عليَّ حياتي أيضاً، وهكذا فقد تعلمت أن الاعتدال حتى في عاطفتي الدينية يجعلني أقرب إلى الله".
انتهى الدرس الأول الذي تعلمه د. شكري عياد.
فهل لاحظت في الآيتين الكريمتين أن الله سبحانه وتعالى قد وصف إنعامه على عبده بأنه ابتلاء له ليعرف كيف سيكون عمله إذا أنعم عليه، ووصف تقديره عليه رزقه، أي تحديده له وتضييقه، بأنه أيضاً ابتلاء ليرى كيف سيكون صبره على أقداره .. وبالتالي فإن كلاً من النعمة والمحنة ابتلاء من الله رب العالمين ينبغي للمرء ألا يفقد جنانه أمامه
أما الدرس الثاني الذي تعلمته فهو كما يقول: "وتعلمت ثانياً أن الصبر هو أساس الفضائل كلها فمرتبته في الأخلاق كمرتبة الصلاة في العبادات ..
وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ
ولا أعني بالصبر مجرد احتمال الأذى، فذلك وجه واحد من وجوهه ولعله أقلها شأناً، أما أعظمها وأكرمها فالصبر على قضاء الحقوق والسعي في طريق الخير وانتظار حسن العاقبة وإن طال المدى".
فما من مرة قرأت فيها هذه السطور، إلا واستعدت في ذهني الحديث الشريف الذي يقول:
حُفَّت الجنة بالمكاره!
بمعنى أن الطريق إليها محفوف دائماً بمغالبة النفس وكفها عن اتباع أهوائها وحملها على أن تؤمن بأن ما عند الله خير وأبقى.
أما أصعب الدروس التي تعلمها الراحل الكبير فلقد قال عنها: "وتعلمت ثالثاً، وكان ذلك أصعب ما تعلمت من دروس، أن أشفق على من ظلمني، فما وقع عليَّ ظلم إلا وتأملت حال من ظلمني فوجدته أحق بالشفقة مني، فأُجاهد وأنا أعمل لدفع الظلم عني ألا أبلغ في ذلك حد الانتقام".
وما أحوجنا نحن أيضاً لأن نتعلم مثله كيف نشفق على من ظلمنا .. والحق أننا نستطيع أن نفعل ذلك إذا تأملنا أحواله وأدركنا هول الخراب النفسي الذي يعشش في أعماقه .. ولسوف نراه غالباً أحق بالشفقة منا .. ولقد ندعو له بأن تحميه السماء من شر نفسه .. وتحمي ضحاياه الذين ينفث فيهم كراهيته لنفسه ولكل البشر من شروره.
ولأن الشيء بالشيء يذكر فكثيراً ما تذكرت أيضاً كلما قرأت هذه السطور كلمة الفيلسوف الألماني نيتشه التي يقول فيها: ليس بين الأحياء ولا بين الأموات من أكون على خلاف معه!
وهي كلمة حكيمة وتعني أنه إذا اختصمك أحد وبغي عليك وقطع مودتك لغير ذنب جنيته فلا تسمم روحك بكراهيته .. ولا تشغل نفسك بلعنه وذمه وانتقاد أخلاقياته .. وذكر مثالبه، وإنما اعتبره ذرة من ذرات الكون الفسيح التي لا تدري بوجودها، فلا تذكره في أحاديثك قادحاً ولا مادحاً، ولا تسمع عنه من يسيء إليه .. أو ما يشرفه .. وإنما تجاهل وجوده تماماً في الحياة إلى أن يرجع عن غيِّه ويصلح أخطاؤه معك أو يعتذر عنها .. واستخسر اللحظة العابرة التي يطوف خلالها بذهنك وادخرها للتفكير فيمن تحبهم لاستعادة وجوههم ورنين أصواتهم في مخيلتك، فهؤلاء وحدهم مَن يستحقون أن يشغلوا فكرك ويملأوا خواطرك، ولا يستحق الآخرون لحظة واحدة من التفكير فيهم ولو بنية الإساءة إليهم أو الانتقام منهم.
أما الصفحة الأخرى التي أتوقف أمامها في هذ الكتاب الرقيق كثيراً، فهي التي ينقل فيها المفكر الدكتور أنور عبد الملك عن الأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار قولها: "سعيد هو ذلك الذي يستطيع أن ينظر إلى حقيقة حياته فيسعد بها" وهي كلمة صادقة، إذ مَن منا يستطيع أن يتأمل بالفعل حقيقة حياته فيسعد بها ويرضى عنها؟
لقد كان الشاعر الشيلي بابلو نيرودا واحداً من هؤلاء الذين "نظروا" إلى حياتهم فسعدوا بها، وقال حين أحس باقتراب أجله:
- أشهد أنني قد عشت!
يقصد أنه قد عاش الحياة التي أرادها وحقق الأهداف التي سعى وراءها ولم يبق إلا إنزال الستار!
فكم من البشر يستطيعون أن يقولوا ذلك؟
لقد أراد الشاعر الرومانسي الراحل محمود أبو الوفا أن يكتبوا على شاهد قبره حين يرحل عن الحياة هذا البيت من قصيدة له:
حسبي إذا الحب أضناني فمت هوى
إذ يذكروني قالوا كان إنسانــــــــــا
وهو هدف جليل بالفعل أن يحيا الإنسان حياة شريفة هادفة تجعل الأحياء يتذكرونه بعد الرحيل فيقولوا عنه: كان إنساناً! لكن "الجائزة" ليست سهلة المنال لكل من يطلبها، وإنما تتطلب الكثير والكثير من مغالبة النفس وردها عن أهوائها وعن إيذاء الغير، كما تتطلب تحري العدل والرحمة والترفع عن المباذل والدنايا في الحياة الشخصية .. فهل من راغب؟.
أما الدرس الأخير الذي أتوقف أمامه أيضاً فهو الذي تروي عنه أستاذة الأدب العربي الراحلة الدكتورة سهير القلماوي، في سيرتها الذاتية حين تقول: إنها كانت تطمح لأن تصبح طبيبة كأبيها الجرَّاح، لكن تعليم الطب لم يكن متاحاً للإناث في مصر حين أنهت دراستها الثانوية، ولا بد لكي تتعلمه من أن تسافر لدراسته في انجلترا، وكانت في السابعة عشرة من عمرها فلم يقبل والدها أن يسمح لها بالسفر قبل سن الرشد، واضطرت هي للالتحاق بقسم اللغة العربية بالجامعة المصرية القديمة لقضاء السنوات الأربع الباقية على بلوغها سن الحادية والعشرين، وكانت قد تلقت تعليمها الثانوي في مدرسة أجنبية فأجادت الانجليزية دون أن تجيد العربية بالقدر الكافي، ووجدت نفسها طالبة بقسم اللغة العربية بالجامعة فلم تحجم عن قبول التحدي، وانكبت على قراءة تفسير محمد فريد وجدي للقرآن بمساعدة أبيها وقراءة تفسير الزمخشري، وعانت الأمرين في فهم أسرار اللغة العربية وإجادتها، فكانت النتيجة أن تفوقت ونسيت حلم دراسة الطب، وأصبحت أستاذة للأدب العربي ورئيسة لقسم اللغة العربية فيما بعد بكلية الآداب وأديبة مرموقة، وعن ذلك تقول: أول وأكبر درس تعلمته هو ألا أيأس أبداً، وأن أتأقلم دائماً مع ما فرض علي وليس منه بد، والخيرة – كما يقولون – فيما اختاره الله، والمهم هو أنني لم أكن لأرضى إلا بأن أكون الأولى على الفرقة أو الثانية!
يا خسارة .. انتهت المساحة دون أن أحدثك عن بقية الصفحات التي أعيد قراءتها في هذا الكتاب مراراً وتكرارً .. فلعل الفرصة تسنح لاستئناف هذا الحديث ذات يوم قريب .. وشكراً.
عبد الوهاب مطاوع
راجعها واعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر