الانقلاب المفاجئ .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

الانقلاب المفاجئ .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

الانقلاب المفاجئ .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

ماذا نفعل في تحولا ت القلوب ؟ .. وما سمي القلب – كما يقول بعض الصوفية – إلا لتقلبه .. وما سمي الإنسان إلا لنسيه .
عبد الوهاب مطاوع

أنا رجل أبلغ من العمر‏58‏ عاما مسيحي الديانة أعمل في مدينة تبعد عن الإسكندرية بـ‏55‏ كيلو مترا‏,‏ فقد عملت طبيبا بالمستشفي وفتحت عيادة بالمدينة منذ‏38‏ عاما‏,‏ وعشت في بداية حياتي عشر سنوات بغير زواج لأنني لم ألتق بشريكة الحياة المناسبة إلي أن بلغ عمري‏30‏ عاما‏,‏ فتزوجت من طبيبة قريبة لي وجدت فيها مطلبي ورزقنا الله بابنتين وولد وأنعم الله علينا بالرزق والسعادة وكان شرطي الوحيد عليها قبل الخطبة والزواج وطول مرحلة الزواج هو أنني العبد المأمور لكل مطالبك إلا أن تقيمي بالإسكندرية وأبقي أنا وحيدا بتلك المدينة‏ ..‏ وقبلت الشرط وعشنا حياتنا في سلامة‏.‏ وتخرجت الابنتان وتزوجتا ورزقهما الله بأحفاد لنا ـ والتحق الابن بكلية عملية وقمت بواجبي بها كاملا تجاه أسرتي وكنا نعيش كأسرة متحابة متآلفة تعد قدوة تقتدي بها كل الأسر في المدينة وذات يوم منذ عامين قالت لي زوجتي‏:‏ باكر سأذهب إلى الإسكندرية ولا أعود إلى هذه المدينة مرة أخري‏ ..‏ ولم أصدق وعيدها في البداية‏,‏ لكني فوجئت بها تذهب بالفعل إلى الإسكندرية وتنفذ كل ما قالته بالحرف ـ فسحبت الأموال من البنوك وعرضت العقارات باسمها للبيع وسممت أفكار الأبناء عني وقاطعوني كلهم الأم والأبناء‏ ..‏ تركوني وحدي في المدينة التي أقيم بها‏.‏ عرضت أن أقيم معهم بالإسكندرية في البيت الذي بنيته للأسرة‏,‏ فرفضت ذلك وإذا طلبتها في التليفون وضعت السماعة في صمت وحشدت كل الأقارب والأصدقاء والمعارف ضدي‏,‏ وطالبت بمقاطعتهم لي ونقلت عملها بالإسكندرية دون أن أدري أين تعمل ولا أين تذهب طوال عامين ـ تدخل جميع رجال الدين من مسيحيين ومسلمين وتدخل نائب البابا وتدخل العديد من الشيوخ الأفاضل من أصدقائي فرفضت رفضا باتا‏,‏ إنها تصغرني بأربعة أعوام لكنها تبدو في سن الـ‏34‏ عاما شابة جميلة أكثر مما كانت قبل الزواج ماذا أفعل وماذا حدث لا  أدري كيف أتصرف بعد أن صرنا حديث الإسكندرية المدينة الصغيرة؟‏!‏
إنني لم أبت ليلة غاضبا عنها وكانت هي كل شيء في حياتي وهي المتصرفة في كل شيء وقد كونت ثروة طائلة كتبت معظمها باسمها وفي زواج البنات تقدم لهن كثيرون فكانت ترفض الكل وكنت أقبل وهذا هو السبب الوحيد الذي أحدث خلافا بيني وبينها حوله حيث كنت خائفا علي مستقبل البنات وهي مغرورة ببناتها فماذا حدث بعد ذلك‏ ..‏ ولماذا هذا الانقلاب المفاجئ لا أدري إنني الآن وحيد شريد طريد بعد كل هذا العمر وإحساسي بالظلم والجحود رهيب وقد تقدمت إلى البطريركية شاكيا وحاول آباؤها ولم يقدروا علي شيء‏..‏ فهي ترفض لقاء أي لجنة‏..‏ تقدمت للقضاء وحددوا جلسة وفعلت هذا لإرهابها من الطلاق ولكن لا اهتمام أو اكتراث من جانبها ولو طلقت زوجتي سوف أعيش أيامي في بؤس أكثر لأني الآن أعيش علي أمل أن تعود لي بتدخل من الله القوي العزيز علي أمل أن يتدخل رب السماء والأرض ويحول قلبها إلي مرة أخري‏..‏ حيث كانت حياتي معها ملؤها الحب‏,‏ وأنا في حالة هيام بها للآن برغم كل ما فعلته بي وهي قلبها حجر صوان ـ أعيش الآن علي أمل تدخل الله ولكن طالت المدة وأغلق الله دوني المنافذ‏..‏ 



 

 ولكاتب هذه الرسالة أقول:


الانقلابات المفاجئة في المشاعر والأحاسيس تبدأ عادة بتحولات بطيئة تستغرق وقتا طويلا من الزمن وتتراكم خلاله ذرات الجليد بين الطرفين حتى تتحول مع مرور الأيام إلى كتلة صلدة يصعب تحطيمها فإذا كان هناك وجود لعنصر المفاجأة في أية قصة شبيهة .. فهو فقط لحظة الاصطدام برأس جبل الجليد الذي يبدو صغيرا فوق الماء.. فإذا اصطدمت بها السفينة اكتشفت لذهول قبطانها أن تحتها جبلا هائلا تحت الماء كفيل بتحطيم أية باخرة. وهذا هو ما يحدث للأسف في بعض الزيجات, حيث تتجمع المرارات ببطء في نفس أحد الطرفين أو كليهما علي مدي الرحلة.. وبدلا من إذابتها أولا بأول بالمناقشة والحوار والرغبة الصادقة في الاستمرار وتجاوز العقبات.. قد يفضل أحد الطرفين تأجيل المشاكل والانتظار إلى أن يأتي الوقت الملائم من وجهة نظره, ثم يطلق مفاجأته ويفجر القنبلة الموقوتة التي اختزنها طوال السنين‏.‏


وأحسب أن هذا هو ما حدث للأسف في حياتك العائلية‏..‏ بالرغم من هدوئها الظاهري ورايات السعادة التي خلت أنها ترفرف عليها وأيا كانت الظروف والأحوال فلاشك في أن زوجتك مطالبة أمامك وأمام أبنائها والأهل بأن تفسر لك علي الأقل أسباب هجرها المفاجئ لك وأسباب رفضها لكل محاولات الإصلاح بينكما‏,‏ وإعادة جمع شمل الأسرة الأبناء لأنه حتي المحكوم عليه بالإعدام تشرح له حيثيات الحكم أسباب القضاء عليه بالموت أما أن تصدر زوجتك حكمها القاسي عليك بالإعدام المعنوي‏,‏ وتجيش الأبناء والأهل ضدك وتطالب الجميع بمقاطعتك دون سماع دفاعك عن نفسك‏..‏ ودون مواجهتك بجريمتك إذا كانت هناك جريمة فليس ذلك من العدل ولا من الرحمة ولا من الوفاء لعشرة السنين الطويلة في شيء‏.‏ ان أقصر الطرق للتفاهم هو الطريق المباشر‏..‏ فكيف عجزت خلال عامين عن الالتقاء بزوجتك مرة واحدة لتسألها عن أسباب تحولها عنك وهجرها لك‏..‏ وكيف عجزت عن إبلاغها فإنك مازلت تهيم بها حبا كما تقول حتى ولو كانت هي قد تحولت إلي كراهيتك واستعداء الآخرين عليك‏.‏
وهل تكفي الرغبة في مغادرة المدينة الصغيرة التي كانت تعيش بها والانتقال للإقامة بالإسكندرية لهدم حياة زوجية كانت مستقرة ولو ظاهريا ؟


ولماذا لم تقنعك بأن أسباب الاغتراب في هذه المدينة والكفاح لبناء الحياة وضع الثروة قد انقضت الآن ولم يعد هناك ما يبرر الاستمرار بها‏..‏ وأنه من الأفضل لك ولها وللأسرة أن تستمتعوا جميعا بجني ثمار الكفاح الطويل‏..‏ والحياة حيث تطيب لكم الحياة ؟ ولماذا لم تستجب أنت من البداية لهذا المطلب مادام قد أصبح ضروريا وملحا بالنسبة لها الي  هذا الحد ؟
وهل يستحق شيء في الحياة أن يفقد الإنسان من أجله سعادته واستقرار حياته وهناء أسرته
لاشك أنها محنة مؤلمة ان يفقد المرء زوجته وأبناءه وأن يجد نفسه وحيدا ممرورا في هذه المرحلة من العمر بدلا من أن يستمتع بثمار كفاحه بين أسرته وأبنائه‏.‏
لكن ماذا نفعل يا سيدي في تحولات القلوب‏..‏ وما سمي القلب ـ كما يقول بعض الصوفية ـ إلا لتقلبه‏..‏ وما سمي الإنسان إنسانا إلا لنسيه ؟
إنني أرجو أن تجد حلا كريما لهذه المشكلة المستعصية وان يعود الأمان والاستقرار لحياتك من جديد ولو تطلب الأمر منك ومن زوجتك أن يتنازل كل منكما عن بعض تعنته ومطالبه‏..‏ فهل يتحقق ذلك حقا ؟


 نشرت سنة 2000 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة
راجعها واعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات