هنا تُسكب العبرات.. بقلم عبد الوهاب مطاوع - كتاب قدمت أعذاري

هنا تُسكب العبرات.. بقلم عبد الوهاب مطاوع













هنا تُسكب العبرات.. بقلم عبد الوهاب مطاوع


أخيرا حسم أمري وقررت أن أقوم بتلك الرحلة التي تهيأت لها أكثر من مرة من قبل ثم حالت بيني وبينها ظروف الحياة.
للسفر طقوس وعادات أحرص عليها في كل مرة أستعد فيها للخروج إلي العالم الواسع. فحين يقترب موعده انقطع عن الخروج من البيت يوميين متتاليين لأكتب أعمالي المتأخرة، وتستقر علي أرض غرفة نومي الحقيبة التي اخترتها لترافقني في رحلتي .. وأظل طوال هذين اليومين أضع فيها ما سوف أحتاجه في السفر .. وكلما تذكرت شيئا أضفته إليها إلي أن اكتشف عادة أنها تضيق بما تحمل فأستعين في اللحظة الأخيرة بحقيبة جديدة ، لكن ظروف هذه الرحلة تختلف تماما عن كل رحلاتي السابقة .. فالحقيبة الصغيرة خالية من معظم ما أحرص عليه في السفر. وكل ما فيها بسيط و متواضع.
وقد انتهيت من كتابة الأعمال المطلوبة مني .. فلم أراجع مرة ثانية و ثالثة محتويات الحقيبة لأتأكد من وجود كل ما أحتاج إليه من بدل وقمصان وربطات عنق.
وإنما نهضت من مكتبي فقصصت شعري .. وقلمت أظافري واغتسلت ، ثم دخلت غرفة نومي و خلعت كل ملابسي، ثم لففت خصري ببشكير أبيض و أحكمت رباطه بحزام أبيض ثم لففت حول صدري بشكيرا آخر .. ووضعت قدمي في شبشب بسيط .. و أنهيت كل استعداداتي للسفر.
يا إلهي .. كيف ستواتيني الجرأة علي الخروج أمام الآخرين شبه عاريا هكذا وفي برد الشتاء وأنا من يتحرج من الخروج من بيته حتى في الصيف الحار بالقميص والبنطلون، ويحرص علي ارتداء البدلة الكاملة والكرافت صيفا وشتاء.. إن هذا هو سر آخر من أسرار هذه الرحلة النورانية التي سأقوم بها .. فإني مسافر إلي حيث لا يعنيني مظهر ولا ملبس ولا وظيفة.. وإنما يعنيني فقط أن يتقبلني من أهاجر إليه لأؤدي العمرة وأقضي ليلة رأس السنة الميلادية  في بيته الحرام مع صديقي (وشيخي) الأديب الفنان أحمد بهجت. وأنت حين تغادر بيتك إلي هذه الرحلة الروحية ترتد عاريا كما ولدتك أمك و ترتدي رداء الإنسان حين يولد و حين يغادر الحياة تاركا خلفه كل حطام الدنيا .. ومطامعها. قطعتان من القماش الأبيض غير المخيط هما كل ما سوف ترتديه لتعود إلي فطرتك التي فطرك الله عليها وتتخلي عن كل متاع الدنيا آملا أن يتقبلك ربك في رحابه.. أما نظرات الآخرين لك إذا رأوك هكذا فلن تحس بها و لن تضطرب لها لأنه لا يعنيك في هذه اللحظات شئ سوى أن تقول لربك بما فعلت : ربي إني قد خلعت ردائي .. وهجرت أهلي وعملي وكل رغائب الدنيا وجئت إليك تائبا باكيا مستشفعا فتقبلني في عبادك الصالحين.
انتهيت من ارتداء ملابس الإحرام وهذه الخواطر تطوف برأسي وقد تولتني حالة وجدانية لا أستطيع تفسيرها من الخوف والاضطراب والرجاء .. والزهد في كل شئ وقد عزفت عن الكلام وتمنيت ألا يكلمني أحد حتى لا أضطر إلي الخروج عن صمتي. صليت ركعتين خفيفتين بنية العمرة وقلت: اللهم إني نويت أداء العمرة فيسرها لي و تقبلها مني. ثم بدأت التلبية: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك. وأحسست بعد أن هتفت بها أن كل ما كان بيني و بين العالم القديم قد انقطع في هذه اللحظة فلم أعد زوجا ولا أبا ولا إبنا ولاصحفيا ولاكاتبا ولاصديقا لأحد و إنما إنسان خائف .. خائف حتى الموت.. تلقي نداء سماويا بالسفر فأجاب النداء واجفا و هتف باطنه مناجيا ربه: لبيك.. إني قادم إليك مستجير بك من عذابك.. طامع في رحمتك.. لقد خلعت نفسي من كل ما كنت فيه ولم يعُد لي أمل في الحياة إلا أن تشملني برحمتك.. ويا ويلتي إن ضاقت عني أو سُدت في وجهي أبوابها.خرجت من غرفة نومي فلفحني برد الشتاء و زاد من ارتجافي الداخلي فكررت التلبية لأني انتقلت من (حال إلي حال) وغادرت مسكني فلم أدر بشئ ولم أتنبه إلى إني أسير أمام الجميع شبه غائب عما حولي .. حتى عن جيراني الطيبين المهنئين. يا إلهي لماذا تشرق الوجوه عندما يراك أصحابها بهذا الرداء البسيط. ولماذا يبتسمون في وجهك ويهنئونك ويسألونك الدعاء وأنت شبه عار أمامهم. إنه سر آخر من أسرار هذه الرحلة النورانية سوف تحس بها طوال الطريق.
مررت علي صديقي أحمد بهجت واصطحبته إلي المطار و أسلمته من هذه اللحظة قيادتي فهو طائف قديم بالبيت الحرام وأنا تلميذ جديد يتلمس الطريق. صعدنا إلي الطائرة فقابلتنا نفس الوجوه الباسمة المشرقة بالترحيب إكراما لردائنا المتواضع وخصتنا المضيفة العطوف برعايتها طوال الطريق. وكررنا التلبية في كل (حال) انتقلنا إليها، من السيارة إلي الأرض.. ومن الأرض إلي الطائرة ثم في مطار جدة، وفيه استقبلنا صديقان ورتبا سفرنا علي الفور بسيارة إلي مكة المكرمة. استوت السيارة على الطريق وحل الظلام والسكون .. وطال ترقبي للحظة التي سأرى فيها بيت الله الحرام وأردد دعاء (معاينة) الكعبة المشرفة .. لكنني لا أحس بالملل أو القلق وإنما أحس بسلام غريب رغم مخاوفي .. فقد فرغت من كل هموم الحياة ولم يعد يشغلني سوى الأمل في رحمة الله.
اقتربت السيارة من بيوت مكة فكررنا التلبية .. ودخلت السيارة المدينة وعيناي معلقتان بالسماء تترقبان رؤية مآذن البيت الحرام .. وخفق قلبي بشدة حين رأيتها .. وتحشرج صوتي بالتلبية والدعاء:
اللهم إن هذا الحرم حرمك والبلد بلدك والأمن أمنك والعبد عبدك جئتك من بلاد بعيدة بذنوب كثيرة أسألك مسألة المضطرين إليك .. المشفقين من عذابك أن تستقبلني بمحض عفوك.
اختنق صوتي حين وصلت إلي نهاية هذا الدعاء .. و تعلق القلب الحزين بالأمل في أن يستقبله ربه بمحض عفوه و هو من لا أمل له سواه.
هل فكرت مرة في حكمة هذا الدعاء الذي يردده الطائفون حول البيت العتيق.
رب اغفر و ارحم .. و تجاوز عما تعلم؟
لقد فات وقت الإنكار والجميع يقرَون بذنوبهم التي يعلم عنها ربهم أكثر مما يعملون هم عنها فهل للإنسان في مثل هذه الحالة إلا الأمل في أن يتجاوز عما يعلم؟
أودعنا الفندق حقائبنا البسيطة وتوجهنا على الأقدام إلى المسجد الحرام ودخلت من باب العمرة فرأيت المصلين حولي في كل مكان .. ولم أر بعد البيت الحرام..
جددت في السير وراء شيخي .. متلهفا علي رؤية الكعبة المشرفة ونزلت إلي ساحة المسجد الرخامية حاني الرأس.. ثم رفعت رأسي فجأة فوجدت نفسي أمام البيت الحرام لأول مرة في حياتي فلم أدر بما حولي ولا بما تولاني من مشاعر وأحاسيس طاغية وانخرطت فجأة في بكاء مرير طويل لم أبكه من قبل إلا حين مات أبي و شقيقان لي رحمهم الله جميعا. عجزت عن السير فوقفت حيث أنا .. ووقف أحمد بهجت ينظر إلي في فهم لحظات ثم سحبني من ذراعي برفق و مضي بي في اتجاه الكعبة.
بماذا أحسست في هذه اللحظات.. و لماذا لم أفعل كما يفعل الآخرون حين يعاينون الكعبة لأول مرة في حياتهم فيستبشرون ويبتهجون ويشكرون ربهم أن مكنهم من زيارة بيته المحرم ويرددون دعاء معاينة الكعبة: .. اللهم زد بيتك هذا تشريفا و تعظيما و تكريما و مهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره.. تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام.
لقد رددت هذا الدعاء وراء أحمد بهجت حين تمالكت نفسي بعد قليل ووجدت صوتي .. لكن لماذا تولاني هذا الإحساس الطاغي المرير حين رأيتها لأول مرة. لقد سألني أحمد بهجت فيما بعد هذا السؤال فترددت طويلا في مصارحته بما أحسست به ربما لغرابته .. وربما خوفا من أن يمس التعبير بجلال المكان. لكنه كان إحساسي علي أية حال ولا حيلة لي فيه .. فلقد تمثلت فجأة صورة اللص الذي ضبط متلبسا بارتكاب جريمته و رفع رأسه فجأة فوجد رجال الشرطة يحيطون به من كل جانب وينهالون بكعوب بنادقهم فوق رأسه فعرف أنه لم يعد يجدي الإنكار أو التنصل من جريمته و تعلق أمله الوحيد باسترحام معاقبيه فرفع ذراعيه مستسلما و هتف صارخا من الألم و الرعب و الضربات الموجعة:
أنا في عرض النبي!
نعم كان هذا هو إحساسي بصدق حين عاينت الكعبة لأول مرة في حياتي .. فلقد أحسست أني هذا اللص الذي ضبط متلبسا بكل ذنوبه علي مدي حياته فلم يعد له من أمل سوي الرحمة و تخفيف العقاب فهتف باطنه متشفعا عند ربه بعرض نبيه و ذمته..
فاللهم أقبل شفاعته فينا و في عبادك الضعفاء و لا تردنا خائبين!
تجاوزت موقفي بصعوبة وغالبت مشاعري وارتجافي .. واتجهت إلي الكعبة المشرفة هذا البناء صغير الحجم نسبيا الذي تهفو له القلوب من كل مكان ويتجه إليه المصلون في كل أرجاء الأرض، أي سحر غامض وأية مهابة في هذا البناء الصغير المقام فوق قاعدة ارتفاعها 75 سم، وبارتفاع 13 مترا والذي يختلف طول أضلاعه فيبلغ ضلعه من جهة باب الكعبة 12.20 مترا، ومن جهة باب إبراهبم 12.60 مترا، ومن جهة الحطيم 10.40 مترا و من جهة الحجر اليماني 10.60 مترا؟
و كيف شاءت إرادة الله حين تصلي فيه في أية جهة من الجهات الأربع في مواقيت الصلاة أن يكون خلفك في نفس اللحظة ملايين من المصلين في أحد أركان الأرض الأربعة فكأنك حين تصلي فيه تقف إماما من حيث لا تدري لملايين آخرين من المصلين لا تعرف مستقرهم ولا أين يصلون نفس هذه الفريضة وراءك؟
تجيبك عن هذا السؤال آية كريمة ودعاء مأثور، أما الآية الكريمة فجاءت على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام حين أودع زوجته السيدة هاجر وولده الرضيع إسماعيل هذا المكان قبل بناء الكعبة و لم يكن فيه بشر ولا حياة و مضي عنهما داعيا ربه (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) "إبراهيم :37"
أما الدعاء فتقوله حين تبدأ الطواف حول الكعبة سبع مرات للحج أو العمرة فتقول بعد أن تستقبل الحجر الأسود: اللهم إيمانا بك..وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلي الله عليه وسلم، وفي هذه الكلمات المباركة تفسير كامل لسر (هوى القلوب) إلى الكعبة المشرفة .. وهو سر لا يقتصر علي أن الحج فريضة وركن من أركان الإسلام وأن الجميع مأمورون به لمن استطاع إليه سبيلا إذ لو كان الأمر فريضة فقط لما رأيت هذه (الدائرة المتحركة من البشر) تدور حول الكعبة بلا توقف إلا عند أداء الفروض الخمس لمدة 24 ساعة يوميا علي مدى 365 يوما كل سنة بلا بداية .. ولا نهاية ! ولاقتصرت هذه الدائرة البشرية اللانهائية على موسم الحج والعمرة فقط، فلقد جعل الله أفئدة من الناس تهوي إلي هذا المكان في كل ساعة من ساعات النهار والليل وعلى مدي العام كله؛ فجاءوا إليه إيمانا به و تصديقا بكتابه واتباعا لسنة نبيه.
والإيمان هو التصديق بالقلب و هو يقع في القلب أولا ثم تؤكده البراهين العقلية فيما بعد. لهذا فسوف تطوف حول الكعبة سبع مرات دون أن تسأل: ولماذا سبع مرات وليست ثمانية.. وسوف تسعي سبعة أشواط بين جبل الصفا وجبل المروة دون أن تهتم بأن تعرف أنك تكرر بذلك سعي السيدة هاجر بين الجبلين حين اشتد العطش بوليدها إسماعيل فهرولت إلي الصفا وارتقته تنظر حولها عسي أن تجد علامة حياة تقترب منها فلم تجد فسعت إلي المروة وارتقته وفعلت نفس الشئ، وتكرر السعي سبعة أشواط هي التي تسعاها الآن ضمن مناسك العمرة و الحج.
لن تسأل عن ذلك وإنما ستصدع بما تؤمر وستتم الطواف حول الكعبة وصدرك يجيش بالانفعال والأمل في رحمة الله .. وستتوجه إلي مقام إبراهيم وهو حجر صغير كان يقف عليه سيدنا إبراهيم وهو يرفع القواعد من البيت حين ارتفع البناء عن قامته، وتصلي ركعتين أمامه أو في أي مكان من المسجد الحرام ثم ستقف بعد أداء الصلاة بباب الملتزم وهو المساحة التي تفصل بين الحجر الأسود وباب الكعبة .. وسوف تحاول أن تجد لنفسك مكانا لتلصق به صدرك وترفع ذراعيك وتتعلق بأستار الكعبة مستغفرا تائبا باكيا.. وسوف تتذكر أن الرسول الكريم قد رأي عمر بن الخطاب في نفس موقفك هذا وهو يبكي بحرارة فقال له: هنا تسكب العبرات. و سوف ترجع عن الكعبة وتشرب من ماء زمزم ثم تتجه إلي المسعى لتكتمل مناسك العمرة بالسعي سبعة أشواط بين الصفا و المروة.
وسوف تتلو هذه الآية الكريمة و أنت تقف فوق الصفا والمروة في كل مرة:
(إن الصفا و المروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) "البقرة:158"
وسوف تعجب معي من كرم ربك و سماحته .. وسوف تسأل وهل يشكر الرب عبده على تطوعه أو طاعته له ؟ وسيجيئك الجواب بأنه وحده جل شأنه الذي يفعل ذلك فضلا وكرما. وبهذا الكرم وحده سوف تتعلق القلوب الواجفة والطامعة في رحمته و فضله.
وتنتهي أخيرا مناسك العمرة بعد منتصف الليل بساعة ونتحلل من الإحرام بقص الشعر ونعود إلي الفندق مجهدين في نهاية رحلة بدأت في الصباح، فأتنبه في هذه اللحظة فقط إني قد طفت حول الكعبة وسعيت بين الصفا والمروة حافيا لمسافة لا تقل عن 9 كيلو مترات علي الأقل وأنا من يعجز عن السير لمسافة 500 متر فقط ثم يتوقف لاهثا وشاكيا آلام العظام وتيبس المفاصل .. وأفكر في هذا الأمر طويلا فلا أجد له تفسيرا إلا في دعاء نية العمرة الذي دعوته في الصباح حين أحرمت ودعوت ربي.. أن ييسر لي العمرة .. ويتقبلها مني..
ولقد يسرها لي بفضل من عنده .. فهل يتقبلها أيضا؟
عبد الوهاب مطاوع 

نقلها من مصدرها بكتاب سائح في دنيا الله

نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات