صرخات في الليل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995


صرخات في الليل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995


صرخات في الليل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995


الإخلاص مفرّج الكروب" كما يقول أحد الصالحين .. ويعنى به الإخلاص الذى يسلم به المرء نفسه لله سبحانه وتعالى .. فلا يعتمد إلا عليه ولا يتجه إلا إليه.. ولا يطلب السلوى والعزاء إلا منه.
عبد الوهاب مطاوع

أنا شاب في الثانية والعشرين من عمري .. حين أرجع الآن بذاكرتي إلى طفولتي استعيد صور سعادة طفل صغير يعيش مع أبويه وشقيقه الأصغر .. ويستمتع بحنان الأبوين ويلهو مع شقيقه ويحب الحياة . أما أبي فقد كان موظفا بسيطا بإحدى الهيئات الحكومية يذهب إلى عمله في الصباح بقطار الضواحي ويرجع مع الغروب حاملا كيسا من الفاكهة الرخيصة ، فيجد أمي ربة البيت الطيبة في انتظاره ويجدنا نحن الابنين وقد أجهدنا اللعب طوال النهار وانتزعتنا أمنا من الشارع لنغتسل ونصلي بالأمر رغم صغر سننا . ثم نجلس في انتظار أبي لنتناول معه طعام العشاء ، وبعد العشاء يجلس أبي بيننا يشرب الشاي ويستمع إلى شكاوى أمنا المعتادة منا .. ومن شقاوتنا وكيف لوثنا ملابسنا بالتراب والوحل خلال لعب الكرة .. وكيف راوغناها عدة مرات ورفضنا الاستجابة لندائها حين نادتنا من النافذة لنرجع للبيت .. الخ ، وأبي مبتسم وراض وسعيد ولا يزيد عن أن يقول لنا من حين لآخر : أهكذا تفعلان في غيابي أو أهكذا تتعبان أمكما التي تشقى من أجلكما ؟ وكانت أمي تضيق أحيانا بما تسميه تدليله لنا وتعاتبه في ذلك متظاهرة بالعبوس فيضحك مبتهجا ، ويسترضيها حتى ترضى .. ومن تكرار هذا الموقف في طفولتي التقطت أذني عبارة غامضة كان أبي يقولها لامي أحيانا إذا اشتدت عليه في العتاب لتسامحه معنا ، وكانت حين تسمعها تمصمص شفتيها صامتة .. وفي بعض المرات كانت عيناها تدمع ، أما العبارة فهي : أتشكين من النعمة يا فلانة ! هل نسيتِ ؟ فإذا سألت أمي عما يقصده أبي بهذا الكلام خلال غيابه ، تشاغلت عني وغيرت مجرى الحديث . وفي إحدى المرات سألتها نفس السؤال ، فسالت دموعها بغزارة وفزعت فزعا شديدا ورحت اقبل رأسها واعتذر لها وشعرت بالندم فكففت عن توجيه هذا السؤال لها بعد ذلك .. ومضت سنوات قبل أن اعرف إجابته ، وقبل أن أدرك أنني لم أكن أول أبناء أبي وأمي كما أتصور وإنما سبقتني إلى الحياة أخت ولدت جميلة ، ثم مرضت في عامها الثاني مرضا شديدا وتوفاها الله ، ثم أخ لم يطل عمره هو الآخر عن بضعة شهور ثم اختاره الله إلى جواره ، فخيم الحزن على حياة أبي وأمي بعد ذلك ثلاث سنوات كاملة ، وتخيلا أن الله سبحانه وتعالى لن يكتب الحياة لذريتهما . وازداد تدين أبي فراح يكثر من الصلاة والصوم وقراءة القرآن ، حتى روى لي حين كبرت انه قد صام هو وأمي في العام التالي لوفاة الابن الثاني 300 يوم كاملة ، ثم انزل الله عليهما سكينته بعد ذلك وأنجباني ، وأنجبا أخي الأصغر بعدي بعام وبضعة شهور ، ومضت فترة طفولتنا مسالمة ونشأنا صحيحين ، نلعب ونجري ونلهو فسعد بنا أبي سعادة لا توصف وحنا علينا حنوا شديدا ، حتى أني لا اذكر له انه مد يده يوم علىّ أو على أخي بالضرب .

ومضت حياتنا هادئة وادعة .. ولم يحرمنا أبي من شئ في حدود إمكانياته واشترى لنا دائما الملابس الجديدة والأحذية ، حارما نفسه من شراء أي شئ جديد له حتى ترغمه أمي على ذلك ، وتقدمت أنا وأخي في دراستنا فانتقلنا من المدرسة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية ثم الثانوية ، وبدأت مطالبنا ونفقاتنا تزيد . وكنت قد أدركت منذ صباي واقع أبي ، وهو انه موظف بسيط وليس قادرا على كل شئ كما يتصور كل طفل في أبيه ، فلم اعد أرهقه بمطالبي على عكس شقيقي الأصغر الذي ظل يتعامل مع أبي على أنه قادر على كل شئ ، وأذكر أنه طالب أبي ذات مرة بحذاء رياضي كزملائه في المدرسة وسأله أبي عن ثمنه وكان مبلغا كبيرا ، فسمعت أبي يتأوه له ، ومع ذلك فقد وعده بأن يحضره له خلال أيام ، وسألني إن كنت في حاجة لحذاء مثله فنفيت ذلك إشفاقا عليه ، ونظر إليّ مبتسما وفاهما ، ولم تمض أيام حتى رجع إلى البيت في المساء ومعه حذاءان رياضيان لي ولأخي ، وعلمت من أمي انه قد اشتراهما بالتقسيط من زميل له بالمصلحة يستعين على حياته بالمتاجرة في بعض الأشياء وبيعها لزملائه مقابل قسط رحيم يحصل عليه أول الشهر . وازددت حبا وإكبارا لأبي الذي يكافح في الحياة بشرف لإسعاد ابنيه وأسرته ، واعتمدت في دراستي على مجهودي وحدي فلم أكلف أبي نفقات إضافية للدروس الخصوصية ، وعملت في الأجازة الصيفية في محل للفيديو قريب من بيتنا احمل الأفلام إلى المتعاملين معه لقاء جنيه واحد في اليوم وبعض البقشيش من الزبائن . 

وادخرت للثانوية العامة معظم أجري من عملي خلال الصيف لدفع رسوم مجموعات التقوية ونجحت بمجموع صغير رغم كل ما بذلت من جهد ، وحزنت لذلك لكن أبي ابتهج بنجاحي كثيرا ولامني لحزني ، وقال لي إن لكل إنسان نصيبه في الحياة ، والتحقت بمعهد لمدة عامين بعد الثانوية وراح أبي يحلم بيوم تخرجي الذي يأمل بعده أن يتشفع لدى رؤسائه بمدة خدمته الطويلة في تعييني بإحدى وظائف الهيئة التي يعمل بها ، خاصة أنه كان قد تخطى الخامسة والخمسين .. ومضت الأيام في طريقها المرسوم ، فإذا بزلزال شديد يزلزل حياتنا البسيطة ويهزها من أركانها ، فلقد مرض أخي الأصغر مرضا شديدا وهو على أعتاب امتحان الثانوية العامة ، وأصيب أبي وأمي بالهلع ونقلاه إلى المستشفى فأجريت له جراحة عاجلة لكن حالته تدهورت أكثر وأكثر وحل القضاء المحتوم به وأنا ذاهل لا اصدق ما يجري أمامي ولا استوعبه ، وخلت الدنيا من شقيقي وصديقي الوحيد الذي لم اعرف لي صديقا سواه والذي شاركته سنوات العمر والطفولة ، وكنا ننام معا في فراش واحد . أما أبي وأمي فلا استطيع أن اصف لك ما حل بهما من قهر وضعف وحزن ومرض ، وبدأت أرى أبي في البيت بالأسابيع لا يغادره إلا بصعوبة شديدة ولا يذهب إلى عمله إلا ليجدد الأجازة المرضية . أما أمي فقد تناوبتها الأمراض حتى عجزت معظم الأيام عن القيام بواجباتها المنزلية ، واستسلمت دائما للمرض والفراش ، وبسبب هذه الظروف القاسية رسبت في عامي الأول في المعهد فلم يحزن احد لرسوبي أو لم يشعر به احد ، وتحاملت على نفسي وبذلت جهدا كبيرا لاستذكار دروسي فنجحت في العام التالي ، لكن أجازة الصيف شهدت بعد نجاحي كارثة أخرى غطت على كل شئ وأكملت جبل الحزن في حياتنا فلقد رحلت أمي عن الحياة بعد عام وبضع شهور فقط من وفاة شقيقي ، وخلت الشقة الصغيرة التي نعيش فيها عليّّ أنا وأبي من بعدهما، وازداد تهدم أبي وعشش الحزن في روحه وصوته ووجهه ، أما أنا فقد أصابتني حالة غريبة من الخوف والفزع خلال الليل فأصبحت انهض من نومي مذعورا عدة مرات كل ليلة فينهض أبي من نومه مفزوعا على صراخي ويجئ فيحتضنني وهو يردد آيات الذكر الحكيم ويضع يده على جبهتي ويستغرق في التلاوة حتى اهدأ واستسلم للنوم من جديد ، ثم أصحو مرة أخرى صارخا ، وطالت هذه الحالة فعرضني أبي على طبيب المستوصف القريب فوصف لي بعض الحبوب المهدئة ونصح أبي بأن أنام إلى جواره لتهدأ مخاوفي ففعل وأصبح يقاسمني الفراش.

وبدأت الدراسة وجاهدت لكي استذكر دروسي وانهي دراستي لأسعد قلب أبي الحزين بشئ يبتهج له بعض الابتهاج ، وهو يهدئ دائما من روعي ويبث فيّ الصبر والأمل في الحياة ويبشرني بأجر الصابرين حتى نجحت بمعجزة وحصلت على شهادتي وبدأ أبي مساعيه في الهيئة التي يعمل بها لتعييني في وظيفة مؤقتة ووعده رؤساؤه بذلك في اقرب فرصة لكن الفرصة لم تأت بعد ذلك أبدا .. فهل تعرف لماذا يا سيدي ؟ إنني أخشى أن اذكر لك السبب فلا تصدقه لكنها للأسف الحقيقة المرة التي أعيشها وليتها كانت كاذبة .
لقد مات أبي الطيب الحنون وهو في الثامنة والخمسون من عمره بلا مرض ولا مقدمات وفاضت روحه الطاهرة وهو جالس بين زملائه في العمل ، فوجدتني وفي اقل من أربع سنوات قد فقدت كل أفراد أسرتي وبقيت وحدي بلا سند ولا معين في الحياة ولا شئ سوى ذكرى أب طيب وأم حنون وأخ صديق لم نكن نفترق قبل أن تفرقنا الحياة .

لقد قام زملاء أبي والجيران بكل ما يتطلبه الموقف وجاء احد زملاء أبي بمصاريف الجنازة من الهيئة وقاموا باستصدار إعلام الوراثة لكي استحق معاش أبي ، ووري أبي التراب وأنا أقف أولول كالطفل الصغير وزملاء أبي يشاركوني البكاء ، وبعد أيام العزاء خرجت لأواصل البحث عن عمل لأعول نفسي بعد أن أصبحت وحيدا في الحياة وتقدمت لشركة صغيرة تطلب شبابا للعمل في الصيف ورأيت طابورا طويلا من الشباب ينتظر مقابلة المسؤل فوقفت في الصالة يائسا من كل شئ ومستغرقا في أفكاري وأحزاني فلاحظت أن الموظف الذي يسجل بيانات الشباب قبل إدخالهم إلى لجنة الاختبار، ينظر إليّ باهتمام فارتعبت وكدت أغادر الصالة ،لكنه أشار لي أن اقترب وسألني عن اسمي ودراستي ، ثم سألني : ماذا يعمل أبوك ؟ فأجبته بأنه بين يدي الله 
ففوجئت به يسألني : متى ؟ فأجبته بلا وعي منذ ثلاثة أسابيع ، فهز رأسه كأنما يقول لنفسه إن تقديره قد صح ، ثم قال لي انصرف الآن ولا تدخل إلى اللجنة وعد في الصباح لمقابلتي ، فشكرته وانصرفت . ورجعت إليه في اليوم التالي فرحب بي و عرفني بنفسه وبأنه رئيس قسم التدريب في الشركة وقال لي إنه سوف يدربني بنفسه على العمل ولن يدعني اعمل كمندوب مبيعات بالعمولة كغيري وإنما سيعلمني أعمال السكرتارية والكمبيوتر وسأعمل معه مباشرة ، فلم أملك نفسي من البكاء أمامه وأنا اشكره حتى خجلت من نفسي ، لكنه هدأ من روعي وسألني عن حكايتي فرويتها له باختصار وتأثر لها كثيرا حتى دمعت عيناه وصارحني بأنني قد لفت نظره من بين الشباب المنتظرين بانكساري ، وبأنني كنت ارتجف بدون أن أدري خلال وقوفي حتى ظنها حالة عصبية عندي ، ثم طلب مني أن اعتبره أخي الأكبر ومسئولا عني ووعدني بأن يتم تعييني بالشركة بمرتب مائة جنيه وبأنه سوف يساندني في الحياة | إلى أن أقف على قدمي إن شاء الله . 

وبدأت عملي معه في نفس اليوم وانتظمت في العمل من التاسعة صباحا إلى أن يأسرني بالانصراف في الخامسة أو السادسة أو السابعة مساء حسب حاجة العمل ، واندهش كثيرا | حين تأخرت معه في العمل حتى الثامنة مساء فرجوته أن يسمح لي بالمبيت في الشركة على أي مقعد حتى الصباح ، وكان هو دائما آخر من يغادر الشركة فيطفئ الأنوار ، ثم يغلق بابها فتصور أنني لا املك اجر المواصلات للعودة وعرض علىّ سلفة حتى اقبض أول مرتب لكني أكدت له إن معي ما استطيع به العودة إلى البيت ،لكني لا أريد ذلك واضطررت لمصارحته بالسبب الذي دفعني لهذا الرجاء وهو مشكلتي التي اكتب لك من اجلها الآن ، فلقد كان السبب هو أنني أخاف الليل في شقتي الخالية بعد رحيل أبي واعجز عن النوم في غرفتي حيث كان يبيت معي أخي رحمه الله وعوضه عن شبابه في الجنة ، وأعجز عن النوم في غرفة أبي وأمي رحمهما الله ،فأضئ الغرفتين والصالة طوال الليل وأنام على الكنبة في الصالة نوما السهر ارحم منه ، فقد عاودتني حالة النهوض من النوم مفزوعا وصارخا وأنا مبهور الأنفاس وضربات قلبي عالية والعرق يغطي وجهي ، فأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، وانهض فأتوضأ واصلي وأظل أتجول في الصالة ذهابا وإيابا حتى يهدني التعب ، واستسلم للنوم بعض الوقت ، وتتكرر معي نفس القصة ، فلا ارجع للنوم مرة أخرى وأغادر الشقة مع أول ضوء في الصباح واذهب إلى عملي وانتظر أمامه أو في المقهى حتى تفتح الشركة أبوابها . ولقد وافق رئيسي الطيب على أن أبيت في الشركة كلما تأخرت في العمل ، وليلتها لم تهاجمني الكوابيس كما يحدث معي في البيت ونمت باستغراق حتى الصباح لكن هذا الوضع ليس حلا لمشكلتي ، لهذا فإني أسألك :أليس هناك حل لهذا الرعب القاتل الذي أعيشه كل ليلة في مسكني ؟ وهل هناك علاج لمثل حالتي هذه ؟ وهل ستستمر معي إلى النهاية ؟ 





ولكاتب هذه الرسالة أقول :


يا إلهي .. كل هذه الأحزان والآلام وأنت في هذه السن الصغيرة ؟ ماذا استطيع أن أقول لك يا ولدي لأهدئ من روعك ، وأعينك على تحمل أقدارك هذه ؟ لقد أشعلت شمعة أحزانك من طرفيها وليس من طرف واحد فالتهمت سعادتك وأمانك في وقت قصير عصيب ، فهل أقول لك أنك قد استوفيت بذلك قدرك المقدور من كأس الشقاء ولم تبق به ثمالة ، ولابد أن تكون حياتك بعد ذلك إبحارا هادئا في نهر الحياة ، تهب عليك فيه نسائم التعويض وغيث السماء ! إن هذا منطق الأمور وعدالة الحظوظ بين البشر ، وهذا أيضا هو الأمل في رحمة الله سبحانه وتعالى ، وفي رفقه وحنانه بالمحزونين . والإنسان قد تعبر بحياته سحابة حالكة السواد في فترة من فترات العمر لكنها لا تتجمد فوق سمائه للأبد ، ولا يمكن لها أن تفعل ، وإنما لابد لها من أن تنقشع بعد حين مهما طال وقوفها ولابد أن تصفو صفحتها وتبزغ شمس الأمل حاملة إليه جوائز الصابرين والموعودين بالسعادة بعد الشقاء ، وإن الشاعر الانجليزي يقول إنه ( إذا كان الشتاء قد جاء فليس الربيع ببعيد ) وشتاؤك الحزين يا صديقي قد حل عليك مبكرا بكروبه وغمته وكآبته ولابد أن يأتي ربيعك من بعده وتغدق عليك الحياة بما ينسيك رحلة الآلام . ( والإخلاص مفرج الكروب ) كما يقول احد الصالحين ، ويعني به الإخلاص الذي يسلم به المرء نفسه لله سبحانه وتعالى ، فلا يعتمد إلا عليه ولا يتجه إلا إليه ، ولا يطلب السلوى والعزاء إلا منه ، فاستمسك بهذا الركن الركين الذي لا سند للإنسان سواه في الملمات والشدائد ، وإذا كنت قد فقدت كل أفراد أسرتك في هذه السنوات الأربع الكئيبة ، فلسوف تدور الأيام دورتها الخالدة قريبا ، ولسوف تصنع أنت أسرتك الصغيرة ذات يوم قريب ، ولسوف تكون لك شريكة حياة عطوف تعينك على وحدتك وأقدارك وتشاركك رحلة الأيام ، ولسوف تنجب منها البنين والبنات فتضج الحياة في المسكن الخالي عليك الآن ، وتحنو أنت على صغارك كما حنا عليك وعلى أخيك أبواك رحمهم الله جميعا ، وهكذا الحياة نتسلم فيها الراية من آبائنا ونسلمها نحن لأبنائنا راضين ، ونكرر معهم ما فعله آباؤنا معنا فنرق لهم كما رقوا لنا ونعطف عليهم كما نهلنا نحن من نبع عطفهم وحنانهم ، فلا تُفلت أية فرصة للارتباط المشروع بفتاة تبدأ معها بناء عشك خلال الأعوام القادمة ، وأنت شاب طيب وخدوم ومتدين ، وقد وضع الله لك القبول عند الناس فنلت خلال وقت قصير حب رئيسك وزملائك وثقتهم وبادلتهم أنت حبا بحب وعرفان ، حتى لتقرر ألا تفارق رئيسك العطوف الشهم وزملائك حتى ولو جاءتك وظيفة الهيئة الحكومية التي يسعى لك فيها زملاء أبيك . وهذه هي بعض الدوائر المضيئة بالحب والخير والتعاطف الإنساني النبيل التي لا تخلو منها الحياة رغم عنائها وجهامتها في بعض الأحيان فتعامل مع هذا الجانب الطيب من الحياة واستمسك به وتفتح للحياة من جديد ، فلسوف تحقق نجاحك وأحلامك وطموحك في مستقبل آمن سعيد إن شاء الله ، فالنجاح أيضا قد ينبع أحيانا من الحزن والألم وليس الفن وحده كما قال ذات يوم الفنان الاسباني العالمي بيكاسو متشكيا من أحزانه وآلامه . ولقد كان اليتيم الأشهر ومعلم البشرية ( صلوات الله وسلامه عليه ) كما وصفه احد الصحابة الأكرمين دائم الفكر متواصل الأحزان ، ومع ذلك فلقد غير وجه البشرية والحياة إلى يوم الدين ، وما أكثر الناجحين والسعداء الذين بدأوا حياتهم بالغوص في بئر الأحزان والآلام حتى الأعماق السحيقة ، ثم هطلت عليهم بعد ذلك جوائز السماء بلا حساب وأكرمتهم الحياة إلى نهاية الرحلة ، فانتظر نصيبك العادل من السعادة والنجاح فلقد قدمت كل قرابينك وأديت ضريبة الألم كاملة ، ولم يبق لك إلا انتظار الجوائز . أما الحالة التي تعاني منها الآن ، فهي حالة مؤقتة ومرتبطة بالأهوال التي عانيتها خلال تلك السنوات الأربع القاتمة في حياتك ، ولن تلازمك طوال العمر كما تخشى ولن يطول عهدك بها كثيرا بإذن الله ، فهي اضطراب من اضطرابات النوم النفسية يسميها أطباء النفس اضطراب الفزع الليلي ، ويعتبر مزمنا يتطلب العلاج إذا زادت فترته عن شهر كامل ، وهو اضطراب تتكرر فيه نوبات الاستيقاظ المفاجئ أثناء الليل مصحوبا بصرخة وهلع ويقع غالبا في الثلث الأول من النوم ، وينتفض من يعانيه جالسا في فراشه مفزوعا تبدو عليه علامات الهلع مع اتساع في فتحة إنسان العين إلى سرعة في التنفس والنبض والعرق الغزير ، ويبقى المفزوع على هذه الحالة لفترة حتى يهدأ الفوران الداخلي الذي أحدثه لديه هذا الاضطراب ، والذي يرتبط غالبا ببقايا حلم مفزع أو بضغوط نفسية شديدة ، وهو اضطراب شائع بين الأطفال في المرحلة بين أربع سنوات واثنتي عشرة سنة ، ويصيب الكبار في العشرينيات والثلاثينيات من العمر وقلما يصيبهم بشكل مزمن بعد الأربعين. وعلاجه في الأطفال هو أن تهدئ الأم أو الأب روع الطفل ، ولا يحتاج الأطفال لعلاج متخصص إلا إذا كانت هناك أعراض جسمية أو نفسية أخرى مصاحبة للحالة ، أما في الكبار فإنه يحتاج إلى علاج نفسي متخصص يعتمد أساسا على فهم الظروف النفسية والاجتماعية لمن يعاني منه ومساعدته نفسيا على التوافق معها ، ويندر أن يحتاج العلاج إلى استخدام عقاقير طبية إلا في حالات معينة . وظروفك النفسية والاجتماعية لا تحتاج إلى تفسير أو تحليل فأنت - أعانك الله - تحمل جبلا من الأحزان والآلام فوق كاهلك الصغير يجعلك في حالة دائمة من الفوران الداخلي خلال الليل حين تستسلم للنوم مجهدا ، فيمور ويدمدم هذا الفوران داخلك رافضا وحدتك وأحزانك ، ومعبرا عن نفسه في هذا الاستيقاظ المفاجئ المصحوب بصرخات الفزع وعلامات الهلع ، لكنه لن يطول إلى الأبد ، وإنما سيخمد هذا الفوران تدريجيا مع مرور الأيام وبُعد الذكرى ، والتسليم بما حدث والتعايش معه ، كما سيسرع العلاج النفسي بكل تأكيد في إخماده وإعادة السكينة إلى نفسك وقلبك بإذن الله ، فاتصل بي لأرتب لك أمر هذا العلاج الميسور في اقرب وقت ، وترقب تعويض السماء لك وجوائزها السخية في قادم الأيام إن شاء الله

 

نشرت سنة 1995 في باب بريد الجمعة بجريدة الأهرام
كتبها من مصدرها / علا عثمان
راجعها واعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات