عمارة الأحلام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
سأبدأ قصتی
بلا مقدمات لأني في حالة لا تسمح لي بالتفلسف أو حكاية الحكايات .. وستعرف ماذا
أقصد حين تقرأ سطور رسالتي .. أنا يا سيدي رجل في الأربعين .. خلال دراستي
الجامعية تعرفت بزميلة لي أحبتها وأحبتنی وشرعنا نبني معا مستقبلنا ، وبعد التخرج
بعامين وفقنا في الحصول على شقة تزوجنا فيها وبدأنا قصتنا السعيدة ، فعشت معها
سنوات كان فيها الحلو .. وفيها المر لكن القافلة كانت تسير ، وخلال رحلة العمر
معها أنجبنا ثلاثة أطفال ، وسافرت للعمل في إحدى الدول المجاورة عدة سنوات حرصت
خلالها على تركها هنا توفيرا للنفقات ولكي أجمع أكبر قدر من المال يسمح لنا بتكوين
حياتنا وحتى حين عدت بعد سنوات العمل واصلت العمل هنا ليل نهار لكي أستطيع استكمال
بناء منزل 4 أدوار وضعت فيه كل مدخراتي وحصيلة كفاحي في الغربة وهنا وسط أصعب
الظروف وفعلا تمكنت بجهد جهيد من استكمال البناء وبنيت عمارة الأحلام كما
يقولون وبدأت أستعد لكي أجني ثمار هذه السنوات الطويلة من الكفاح ، وفي هذه الأيام
بالتحديد أفقت فجأة على صدمة هزت كياني كلي .. فلقد فوجئت بزوجتي المحبوبة التي
واصلت العمل في الليل والنهار من أجل تأمين مستقبلها ومستقبل أبنائها تطلب مني
الطلاق وتصر عليه . لم يقع بيني وبينها خلاف .. ولم تشهد حياتنا تقلبات عنيفة ..
فلم يحدث بيني وبينها إلا ما يحدث أحيانا بين الأزواج من خلافات بسيطة لا يخلو
منها بيت لذلك كان طلبها مفاجئا لي تماما وحين سألتها عن الأسباب قالت لي بإصرار :
تحس أنها قد أصبحت بالنسبة لي منذ سنوات بعيدة قطعة من قطع أثاث البيت وأنها لا
ترغب في مواصلة الحياة معي .. حاولت إثناءها عن ذلك ووعدتها بأن أعطيها اهتماما
اكبر ووقتا أكبر بعد أن انتهيت من بناء البيت ولم أعد مطالبا بالعمل بهذه الطريقة
السابقة فلم تقتنع وأشر کت أسرتها في الأمر ففوجئت بوالدتها تؤيدها في مطلبها
فمنحتها الطلاق راغما .. على أمل أن يهدأ غضبها بعد فترة وأن تراجع نفسها من أجل
الأبناء ومن أجلي وأعطيتها كل حقوقها فأعطيتها أثاث البيت والأبناء وكل شيء وتر کت
شقة الزوجية لها وأقمت في شقة من عمارتي الجديدة وحاولت ألا اقطع ما بيني وبينها
أملا في إعادة الأمور إلى مجاريها فكنت أسأل عنها .. وعن الأبناء وأعطيها النفقة
بنفسي فلاحظت لأول مرة وجود شخص ثالث في حياتنا يؤثر على مجرى الأحداث بدون أن
أعرف سر قوته أما الشخص الثالث فهو صديق كنت قد فتحت له بيتي وقلبي منذ سنوات
طويلة كان دائما على استعداد لأن يقدم لنا خدماته .. كان يأتي إلينا ليجد عندنا
الراحة من متاعبه مع أسرته ويجد عندنا النصيحة المخلصة ووثقت به ولاحظت أن هناك
تقاربا بينه وبين زوجتي لكني لم يساورني الشك فيه وحتى حين أردت أن أتخلص من ظنوني
ذات مرة فصارحته بما يساورني من شك قال لي إنه ليس سوى أخ لزوجتي وأنه كان يدخل
بيتها منذ الطفولة كصديق لشقيقها ويهتم بأمر أسرتها .
وتذكرت فيما بعد أن زوجتي
كانت تعتمد عليه دائما في أشياء صغيرة لم يكن انشغالي المستمر يسمح لي بالقيام بها
التوصيل إلى الطبيب أو اصطحاب الأبناء إلى عيادة طبيب الأطفال أو أداء مهمة تتعلق
بشقيقاتها الأصغر منها .. وحين وقع الطلاق وجدته مستمرا في رعايتها ورعاية
شقيقاتها بل والأبناء أيضا ونصحته بالابتعاد عن أسرتها لكيلا يتيح مجالا للحديث
فقال لي أنه صديق قديم للأسرة وإنه أخ لا أكثر وخلال هذه الفترة عرضت عليها أن
تنتقل من شقة الزوجية القديمة إلى الشقة التي كنا قد أعددناها في البيت الجديد
واخترنا كل شيء فيها معا من الألوان إلى البلاط إلى السيراميك الخ .. فاشترطت لکی
تسكن هذه الشقة أن أعطيها عقد إيجار كمستأجرة وأن تقم فيها مع أبنائها كمطلقة
قائلة إنها ربما بعد عام أو عامين حين تهدأ مشاعرها فإنها قد تعود إلي فقبلت لكيلا
أغلق الباب بيني وبينها وحبا في الأبناء لكيلا يعيشوا بعيدا عني .
وقبل أن تنتقل إلى الشقة
الجديدة كانت وبمساعدة الصديق نفسه قد تنازلت عن شقة الزوجية القديمة لصاحب البيت
مقابل مبلغ من المال ثم حملت أثاثي السابق إلى الشقة الجديدة وفرشت الشقة به وبعد
أن استقرت فيها واستقر كل شيء في موضعه كان أول شيء فعلته بعد الانتهاء من ترتيب
قطع الأثاث وتركيب الستائر وتنظيف البيت هو الذهاب إلى قسم الشرطة المجاور لكي
تطلب من الشرطة استدعائي لتحرير تعهد بعدم التعرض لها . هل تتصور ذلك يا سيدي ؟
كنت معها وهي تقوم بترتيب الأثاث ومعها وهي تركب الستائر بل ورأيتها تغتسل لتستبدل
ملابسها وتخرج بعد دقائق فوجئت بمن يطلبني للذهاب إلى القسم فذهبت متعجبا فإذا بها
جالسه بنفس الفستان الذي استأذنت لترتديه في حجرتها وأمامي تعهد مكتوب ومطلوب
توقيع عليه .
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
يا صديقي أنقذ نفسك من
هذا العذاب الذي تتجرعه كل يوم وأنت ترى زوجتك السابقة ذات الأعصاب الحديدية ضاحكة
لاعبة لاهية مع صديقك السابق بين أولادك وفوق أثاثك لأن الباب أمام الباب .. وأنت
ترقبها بحسرة وتتجرع كل لحظة ألم الغدر والخيانة ؟.
لا شيء في الدنيا يساوي
أن يتحمل الإنسان هذا العذاب إذا كان قادرا على أن ينجو بنفسه منه وأنت قادر
والحمد لله فماذا تنتظر ؟ ولماذا لا تبيع هذه العمارة اللعينة التي هدمت أسرتك
بانشغالك الشديد بجمع ثمنها ثم ببنائها إلى الحد الذي تركت فيه لغيرك أن يقوم بما
كان ينبغي أن تقوم به أنت من رعاية زوجتك وأبنائك ؟ ثم ماذا يساوی مال الدنيا إذا
افتقد الإنسان السعادة والكرامة والأمان ؟.
لقد غابت عنك أشياء كثيرة
يا صديقي حين مهدت بتصرفاتك لكل ما حدث فلم تر النار تسرى تحت الرماد لأنك مشغول
بعمارة الأحلام ولعلك نفخت فيها بغير قصد باعتمادك التام على هذا الصديق الغادر
وبثقتك فيه رغم أن الأمور كانت واضحة أمام كل ذي عينين .. ثم حين نفذت لزوجتك
رغبتها في الطلاق ابتذلت نفسك في محاولات استرضائها للعودة إليك فأعطيتها الفرصة
لكي تحقق من ورائك اكبر قدر من المكاسب وتستولي منك على شقتين بدلا من شقة واحدة
وتستولي على الشقة التي أعددتها خصيصا لها بمداعبة أملك في إمكان عودتها إليك وحين
تمكنت نفضت يدها منك بأعصاب قاتل محترف لا يوجه ضربته إلا في مقتل وهذا هو أكثر
جوانب خديعتها إجراما وانتهازية وأنانية . وهذا هو أيضا اکثر جوانب شخصيتك تناقضا
فأنت فيما يبدو لي حريص على المال ومع ذلك فقد لانت فراملك سريعا معها لرغبتك
الشديدة في إعادتها إليك ولعلها عرفت ذلك فيك فاستثمرت بتفكير مادي بحت هذه الرغبة
لتحقق لحياتها الجديدة التي دبرت لها من اللحظة الأولى اكبر مكاسب ممكنة ولو كان
ثمن ذلك أن تغدر بك مرتين . مرة بالانفصال عنك للارتباط بصديقك ومرة أخرى بهدم كل
أحلامك بعد الحصول على الشقة لكي تتزوج شريكها وتستمتع بحياتها أمام عينيك.
يا إلهي انه تفكير رجال
عصابات .. لا زوجة سابقة وأم لأطفال يجمعون بينكما إلى نهاية العمر حتى ولو
انفصلتما فماذا جرى للبشر يا صديقي ؟ ولماذا أصبح بعضنا لا يتردد عن طعن الآخر .
بخنجر مسموم إذا لاحت وراء ذلك منفعة مادية ؟ لقد كانت تستطيع أن تتزوج من شريكها
في شقتك القديمة وان تعلنك بذلك بوضوح وبشرف ولم يكن لأحد أن يلومها مادامت قد
اختارت حياتها وهي في النهاية رغم الغدر سوف تتزوج زواجا مشروعا فلماذا هذا التدبير
الإجرامي ؟.
إنني أشعر بعذابك يا
صديقي وأحس إنني أمام دراما غريبة تقف فيها وحيدا وسط قوم لم تأخذهم بك شفقة ولا
رحمة حتى ولو كنت مخطئا لكن هكذا الدنيا يا صديقي تقسو أحيانا وتصفو أحيانا أخرى
وعلينا أن نتعلم فيها كيف نتقبل الهزيمة كما نسعد بالانتصارات الشخصية .. والصوفية
يقولون في بعض أشعارهم :
فات ما فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها
والساعة التي أنت فيها تطالبك بأن تخرج من موقف المحسور الذي يرقب سعادة الآخرين بأسى وألم ويتعذب بها وتطالبك بأن تطوي هذه الصفحة الأليمة وأن تبدأ حياة جديدة مزودا بخبرة ثمينة عن الحياة والبشر ولعل ما حدث يعلمك أن المغالاة في الجري وراء المال على حساب حق الزوجة والأبناء من الرعاية لا تحقق السعادة كما أن بناء العمارات على حساب كل شيء آخر في الحياة لا يحقق الكرامة ولا الأمان .. وما أكثر ما نتعلم كل يوم من فصول جديدة في علم الحياة .
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر