بنت الباشا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

بنت الباشا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

بنت الباشا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984


لأول مرة أجرب هذه الطريقة ولعلها تكون الأخيرة لأني أختار عادة رسائل بريد الجمعة بعد جهد وتدقيق طويلين, أما في هذه المرة فلقد وضعت كومة رسائل بريد الجمعة أمامي ثم مددت يدي عشوائيا عليها فوقعت على هاتين الرسالتين الفريدتين.

     تقول كلمات الرسالة الأولى :


أنا تلميذة بالصف الأول الثانوي كان جدي لأمي باشا.. أي باشا سابق ثم تغيرت الدنيا وضاعت الأرض وضاع العز منذ سنوات طويلة ولم أر منه شيئا, لكني سمعت عنه من أمي التي شهدت طفولتها بقاياه. وقد ضاع المال ونزلت أمي إلى ميدان الحياة, وعملت موظفة كتابية في إحدى المصالح الحكومية وتزوجت من أبي وأنجبتنا ونشأنا بين أحضان أبوين صالحين يعملان كل جهدهما لتربيتنا وتعليمنا وإسعادنا وحياتنا تمضي عادة.. نعاني من متاعب الحياة كغيرنا, لكن يظلل حياتنا دائما الحب والتعاطف الأسري ونحيا تحت رعاية أبي الرجل الفاضل وأمي السيدة المؤمنة التي ربتنا تربية بنت باشا سابق لأبنائها, والحمد لله علي كل حال.

 تسألني طبعا ماذا أريد.. ولماذا أكتب لك. إني أكتب لك لأني أريدك أن توجه رسالة في بريد الجمعة إلى أمي لأنها تقرأه كل أسبوع والحكاية أنني كنت نائمة ليلة عيد الفطر المبارك فصحوت من نومي الفجر على صوت بكاء.. ونشيج فنهضت مفزوعة ثم تسللت من غرفة النوم على أطراف أصابعي لأعرف إيه الحكاية.. فرأيت أمي وراء الباب جالسة على الأرض في الصالة على سجادة الصلاة رافعة وجهها ويديها إلى أعلى تكلم الله سبحانه وتعالى وتقول له: "يا رب.. يا من لا تظلم عنده الخلائق.. لقد كرمتني بنجاح أولادي فهل ترضى بألا يفرحوا في العيد. إنهم في حاجة لملابس جديدة.. لكن العين بصيرة واليد قصيرة وأنت أعلم بحالنا.. يا رب".

 

     سمعت كلماتها إلى الله وانسابت دموعي وخشيت أن تراني فتخجل مني ويزداد همها" فعدت إلى فراشي وقلبي حزين وبقيت في الفراش بلا نوم حتى الصباح. وفي الصباح نهضنا من فراشنا وتبادلنا التهنئة بالعيد.. وأنا ألمح في عينيها نظرة منكسرة.. لذلك فإني أريد منك أن تكتب إليها رسالة تقول لها فيها إننا لم نطلب منها ملابس جديدة في العيد.. ولم نطلب منها حتى العيدية وأننا نعرف حالنا كويس وأن دخلنا يدوب بيكفينا لأخر الشهر.. وقل لها كتر خيرها هي وبابا إنهم بيعلمونا وبيصرفوا علينا وبيحبونا وبيتعبوا كتير علشان يسعدونا.. وأرجوك تقول لها كمان إن إحنا راضيين بحياتنا والحمد لله.. وإنه مهما حصل فهي في نظرنا بنت الباشا.. وحتفضل كدا علي طول... وشكرا لك".

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

     وأتوقف طويلا أمام هذه الرسالة.. أتأمل في خيالي صورة الأم الجالسة على سجادة الصلاة تبكي وتناجي ربها في ليلة العيد وابنتها ترقبها خفية.. ثم أستعيد كلمات الابنة المعبرة ببساطة وصدق عن حبها لهذه الأم الطيبة .. وأشعر أني عاجز عن توجيه الرسالة التي تطلبها مني الابنة إلى الأم. فإني مهما استجمعت الكلمات لن أستطيع أن أنسج كلمات أرق ولا أصدق مما كتبت هي عنها وإليها لكني فقط أقول للأم إن من نشأت أبناءها وسط متاعب الحياة وظروفها الخاصة على هذا الخلق الرضي الطيب القانع.. هي أم عظيمة بلا جدال فهنيئاّ لك يا سيدتي حب واحترام أبنائك لك وليتوج الله كفاحك مع زوجك بنجاح الأبناء دائما واستكمال تربيتهم وتعليمهم, فلا شك أنك سوف تقدمين للمجتمع عناصر فاضلة تضيف إلى الحياة ولا تخصم منها وإذا كنت قد فقدت العز القديم فلقد عوضك الله عنه خيرا بأبناء صالحين محبين عطوفين.. وهو فضل لو تعلمون عظيم.    

 

 نشرت في مارس 1984 بجريدة الأهرام باب بريد الجمعة

راجعها واعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات