نقطة الانفجار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

نقطة الانفجار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

نقطة الانفجار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

منذ فترة طويلة تساورني الرغبة في أن أكتب إليك قصتي فيمنعني كبريائي من ذلك ، فانا طبيبة في العقد الثالث من العمر تزوجت من إنسان محترم يعمل مهندسا ويكبرني بعامين ولى منه ابنة في الرابعة من عمرها، وقد تزوجنا منذ ست سنوات بالطريقة التقليدية ولم يدخر زوجي وسعا في تأثيث المسكن والاهتمام بأدق متطلبات الحياة الزوجية، لكنه كان يعمل خارج القاهرة ولا يرجع من عمله إلا لبضعة أيام كل شهر فكنت كلما سافر للعمل ذهبت إلى بيت والدتي وأقمت فيه بلا مسئوليات ولا أعباء زوجية ومنزلية، وكان ذلك أمرا مألوفا في حياتي لأنني وحيدة أبي وأمي ومازلت في نظرهما الطفلة المدللة التي لم تكن أمي تسمح لها بالمشاركة في الشئون المنزلية . وخلال غياب زوجي في عمله كان يتصل بي بانتظام ويبثني أشواقه الحارة من خلال التليفون وعبر الرسائل .

 

إلى أن نقل زوجي إلى القاهرة واستقر فيها بعد ثلاث سنوات من زواجنا وبدأت حياتنا الزوجية الفعلية، ففوجئت "بالمسئوليات" التي لم أعط لها اهتماما من قبل ، وهي مسئوليات البيت والزوج والطفلة التي كانت قد أتمت عامها الأول في ذلك الوقت ، وكل ذلك لم أعتد عليه في بيت أسرتي ولم تدربني أمي على تحمله ، ومع ذلك فقد راح زوجي يساعدني في تحمل أعباء البيت والطفلة ويواجه كل مشكلة بابتسامة ، في حين أصبحت أنا دائمة العبوس في وجهه ومتصلبة الرأي فی مطالبي ولا أقبل منه إلا تنفيذ رغباتي حرفيا كما تفننت أيضا في

اختلاق الأسباب حتى استطعت مقاطعة أسرته تماما بالرغم من قرب مسكنها منا ، ولم يدخر زوجي جهدا للإصلاح بيننا ، لكني سددت عليه كل الأبواب لكي استأثر به وحدي دون أسرته وليظل "تابعا" لي على الدوام كما تعلمت للأسف من أمي في علاقتها بابي ، ولقد حرصت على أن أتبع نفس "المنهج" الذي نشأت فوجدتها تتبعه معه وتقول عنه أنه المنهج الأصح في معاملة الزوج لكيلا يتمرد على زوجته واعترف لك بأنني قد طبقت هذا المنهج مع زوجي بدقة .

وأنه على حين كان يحرص دائما على إرضائي ويشعرني بالحب في كل وقت حتى في نبرات صوته ، كنت أنا أضن عليه بمشاعري وأتمنع عليه حتى في حقوقه الزوجية لكي يظل متأججا من ناحيتي باستمرار ، كما كنت لا أستجيب لرجاءاته لى باحترام أهله والسؤال عنهم إلى أن حلت القطيعة التامة بيننا ، وحين كان يصطحب ابنته لزيارة أبيه وأمه وأخوته لبعض الوقت كانت تنتظره في البيت دائما مشكلة كبرى افتعلها معه كأنني أؤدبه بها على اجترائه على اصطحاب طفلتي إلى جديها وعلى مودته لأهله ، إلى أن جاء يوم أراد فيه أن يصطحب طفلتنا إلى بيت أسرته ، وأصررت أنا على منعها من الذهاب ، وتماديت في الخلاف معه ، فإذا به ينفجر في وجهي انفجارا صاعقا ويصفعني على وجهي ، فكانت الطامة الكبرى .. والحريق الذي أصررت على إشعاله وتأجج ناره حتى النهاية واستدعيت أهلي على الفور فجاءوا إلي مسرعين واصطحبوني معهم بعد أن وجهوا إليه سيلا من الإهانات .. ووقع الخلاف الكبير بيننا على غير توقع مني إذ ظننت أنني مهما فعلت معه فلن يصل أبدا إلى نقطة الانفجار هذه معي ، وبدأت سلسلة المحاضر في أقسام الشرطة ضده بخصوص طردي من البيت والتعدي علي وعدم الإنفاق ، وطلبت تمكيني من منزل الزوجية بواسطة النيابة بالإضافة إلى قضايا أخرى خاصة بالنفقة وتبديد المنقولات وغير ذلك من سلاسل الحلقة الجهنمية المألوفة لدى محاميی الأحوال الشخصية الذين يتصيدون مثيلاتي ويرضين غرورهن بأنهم سوف يأتون لهن بالزوج راكعا أمامهن وطالبا الرحمة !

 

ومضت أربعة شهور ونحن في هذا المسلسل اللعين .. ومع ذلك فقد فوجئت بزوجي يطلب مني فتح صفحة جديدة بيننا ويصفع عن كل ما اتخذنا ضده من إجراءات ، وقبلت العودة إليه بعد تمنع طويل وامتهان كاف لكرامته ، ورجعت الحياة بيننا وعشنا في هدوء نسبي بضعة شهور ثم وجدتني ارجع تدريجيا لسابق عهدي معه من النكد والعبوس واختلاق المشاكل وتطبيق منهج أمي معه على الوجه الأكمل .. وحدث شجار آخر بيننا فلم أتردد في استدعاء أهلي من جديد . وفي هذه المرة قمنا بنقل كل متعلقاتي وما يخصني وما لا يخصني من أجهزة وأدوات ومفروشات حتى المناشف ومفارش السفرة فلم أترك في البيت سوى المنقولات الخشبية العارية وحدها ورجعت إلى بيت أسرتي ، وفي الصباح التالي كان المحامي يعمل بنشاط في استكمال الحلقة الجهنمية إياها من محاضر ودعاوي و اتهامات وجهت فيها إلى زوجي كل ما من شأنه أن يصوره کوحش كاسر يعاملني معاملة العبيد ويقبض يده عن الإنفاق على وعلى طفلته ، ويضربني بانتظام وبقسوة ويضرب طفلته كذلك ، بل إنني قد اتهمته أيضا بتبديد المنقولات وعرضته لخطر الحبس فأسرع يطلب منا | تسلم هذه المنقولات على الفور وذهبت إلى البيت مع أسرتي و أنزلناها إلى عربة النقل وتركنا له المسكن على البلاط وخلال ذلك جاءني زوجي في علي ثلاث مرات وأعطاني نقودا ، فأخذتها منه وأنا أتوعده أنني سأحصل على كل حقوقي منه عن طريق المحكمة ثم منعته بعد ذلك من رؤية طفلته ، فأقام ضدي دعوى رؤية للطفلة وحكم له فيها وتقرر أن يراها بمقر الحزب الوطني لكنه لم يحضر لرؤيتها سوى ثلاث مرات وآثر بعدها الابتعاد لأن نفسية الطفلة تأثرت بذلك ثم حكمت لي المحكمة الابتدائية بالطلاق منه غيابيا ، فقدم هو معارضة في هذا الحكم واكتشفت أنا فجأة أنه قد مضت ثلاث سنوات وأنا في ساحات المحاكم والنيابات ومكتب المحامي الذي يستنزفني ماديا ، والقضايا والنزاعات تسرق عمري وقد تعديت الثانية والثلاثين وأوشكت ابنتي على الالتحاق بالمدرسة وهي بعيدة عن أبيها

 

والصورة من حولي قاتمة فلا أنا زوجة ولا أنا مطلقة ، كما أنني في أعماقي لا أرغب في أن أحمل لقب المطلقة البغيض ، لكن كبريائی يمنعني من أن أعلن ذلك . ونشأتي في أسرتي لم تساعدني على الإقرار بالخطأ مهما كانت الظروف وحين نظرت إلى حياتي بعد ثلاث سنوات من الصراع والنزاع والقضايا وجدتني قد أصبحت مطمعا لكل من تسول له نفسه أن يجرب الاقتراب من إنسانة يائسة سعت بإرادتها إلى تدمير حياتها .

 

 

وبعد مغالبة شديدة لكبريائي اللعين قررت أن أكتب إليك لسببين الأول أن تساعدني

على اتخاذ القرار السليم في حياتي هذه ، والثاني لكي أرجو منك أن تكتب لزوجي وهو

من قرائك المستديمين أن يصفح عما كان وأن يبدأ معي صفحة جديدة . ولعنة الله على

المنهج ، الذي حاولت أن أطبقه مع زوجي تقليدا لأمي ، ولعنة الله على كل زوجة لا تتقي

الله في زوجها وأطفالها.

إنني أعرف أنني قد أدركت ذلك بعد فوات .. الأوان لكني أتمسك بالقشة التي قد يتعلق

بها أمل الغريق . وأملى أن يصفح عني زوجي هذه المرة أيضا كما صفح من قبل وأن تكون

كلماتك له بمثابة نداء العقل من أجل ابنتنا الصغيرة ، أما أنا فإني لا أنتظر منك إلا أقسی

الكلمات ولن ألومك على ذلك والسلام.

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

يخيل إلي في بعض الأحيان أن ما قاله الأديب الأمريكي الساخر مارك توين يجد ظلا من الحقيقة في بعض البشر . فلقد قال ساخرا من ظلم الإنسان للإنسان : الإنسان حیوان ناطق .. لكنه لا يصل في بعض الأحيان إلى المستوى الأخلاقي « الرفيع » للوحوش ! فالوحش يقتل بدافع الجوع. أما الإنسان فيقتل بدافع الحقد أو بدوافع أخرى ليست عادلة كدافع الجوع !

فهل أكون قاسيا عليك كثيرا يا سيدتي إذا قلت لك إنك لم تنازعي زوجك أمام الشرطة والنيابة والقضاء طلبا لحق ولا بدوافع عادلة وإنما بدافع الرغبة في قهره وتطويعه وهزيمته وإذلاله ؟

وهل أتجاوز الحقيقة إذا قلت إنك أنت المسئولة من البداية إلى النهاية عن هدم حياتك الزوجية وحرمان طفلتك من أبيها . وضياع فترات ثمينة من العمر في دهاليز المحاكم ومكاتب المحامين حتى أوشكت طفلتك على الالتحاق بالمدرسة بعيدا عن أبيها ؟

 

لقد أقررت على نفسك بذلك .. لكن كبرياءك الأجوف يحول بينك وبين تدارك الأمر قبل أن يمضي إلى الهاوية السحيقة، ولست أدري في الحقيقة كيف تجدين في نفسك القدرة على الاعتراف بالخطأ ثم تعزفين في نفس الوقت عن مصارحة من أخطأت في حقه بذلك ؟ وكيف تسلمين بأن معظم إدعاءاتك على زوجك واتهاماتك له كيدية وباطلة . ثم تقبلين رغم ذلك الاستمرار في منازعته قضائيا على أساسها ؟

إن العدل مع الآخرين يا سيدتي فريضة دينية وأخلاقية كغيرها من الفرائض ، وظلم الإنسان لغيره جناية يهتز لها عرش الرحمن في سماواته العلا وهو من حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما كما يقول لنا الحق سبحانه وتعالى في مضمون الحديث القدسي.

 

فإن عجبت لشيء بعد ذلك فلست أعجب لانسياق البعض وراء الفجر في الخصومة إلى حد الافتراء على الآخرين ورميهم بما ليس فيهم طلبا لقهرهم وإذلالهم والانتصار عليهم ، وإنما أعجب حقا وصدقا لمن يقدم على ذلك وهو عليم بما يفعله ثم يجد في نفسه بعد ذلك القدرة على أن ينعم بنوم هادیء في الليل ، ولذة طعام وشراب ، وإحساس غامر بالأمان والاطمئنان إلى الغد والمستقبل وقد علمنا منذ قديم الزمان بأن خير ما نحتمي به من غوائل الأيام هو ألا نظلم أحدا عامدين لأن الحياة ديون ، ولسوف تقتص منا الحياة ذات يوم بما ظلمنا به الآخرين .

 

ولقد قلت مرارا من قبل إنني لا احترم زوجة تنازع زوجها

أمام الشرطة والقضاء ولا أقبل منها هذا السلوك على مضض إلا في حالة واحدة استثنائية هي أن يتكرر إيذاء زوجها لها وتفشل معه كل الوسائل السلمية والودية لردعه عما يفعل ، فلا يكون لجوء الزوجة هنا للشرطة إلا طلبا لحمايتها من زوجها ووالد أطفالها بعد أن خاب كل سعي آخر معه ، أما أن يكون أول ما تفكر فيه الزوجة وأهلها عند كل خلاف عابر من خلافات الحياة الزوجية هو اللجوء إلى الشرطة فلا معنى له إلا فساد القيم العائلية والأخلاقية التي تحكم هذه الزوجة وأسرتها .

 

لكنه لا عجب من ناحية أخرى فيما فعلت حين هرولت من أول صفعة إلى أقسام الشرطة بعد طول صبر و احتمال من زوجك ، فلقد كان ذلك منطقيا تماما مع « المنهج » الفاسد الذي حاولت إتباعه معه لترويضه والسيطرة عليه تقليدا لوالدتك ، لكنه قد فاتك في ذلك للأسف أن ما يصلح مع إنسان قد لا يصلح مع غيره . وأن هذه المناهج الفاسدة لا تعني نجاح الحياة الزوجية و إنما تعني فقط العجز عن تغييرها في بعض الأحيان . كما فاتك أيضا أن لكل إنسان قدرته على الاحتمال التي لا يستطيع تجاوزها ثم تنفجر بعدها براكينه مهما بدا لنا هادئا وخانعا ومستكينا لأن الضغط يولد الانفجار ، فإذا كانت حياة والدتك لم تشهد مثل هذا الانفجار مع زوجها فلأنها كانت فيما يبدو تعرف متى تتوقف عن الضغط عليه في الوقت المناسب وقبل أن تتهشم قشرة احتماله الرقيقة في حين اندفعت أنت بجهلك بالطبيعة البشرية و بشخصية زوجك وبكبريائك غير المفهوم في الضغط على زوجك حتى بلغت به نقطة انفجار المرجل وانطلاق بخاره المكتوم ، والزعيم السوفيتي الأسبق خروشوف يقول لنا أن الناس لا يساقون حتى إلى الجنة بالعصا وإننا لو سقناهم بها إلى رحابها لأبوا دخولها ، فكيف بهم إذا سقناهم بعصا التكبر والعناد وصلابة الرأي وجفاء المشاعر إلى ما لا يرضيهم ولا يشعرهم بكرامتهم ورجولتهم؟ هل يحق لنا في هذه الحالة أن نتوقع منهم أن يزدادوا رغبة فينا. وتمسكا بنا؟ | وهل يكون غريبا عليهم أن ينفجروا فينا ذات يوم ويفضلوا غيرنا حتى ولو بدوا لنا من قبل شديدي الحرص علينا ؟ أنه ليس خطأ المنهج الفاسد في التعامل مع الزوج وحده ولا هو فقط خطأ النشأة المدللة التي أورثتك العناد والأنانية وإيثار الذات حتى على مصلحة طفلتك ، لكنه أيضا خطأ التكبر والاعتزاز الزائد بالنفس واعتبارها ذاتا "ملكية" فريدة ينبغي على الآخرين أن يطلبوا ودها دائما ويقربوا إليها القرابين في كل حين وليس من حقهم أن ينتظروا منها بعد ذلك تجاوبا ولا إنصافا ولا تكريما، وإنما يكفيهم فقط شرف الاستمرار في « المعية » وشرف « حظوة » الحياة تحت سقف واحد معها !

وفي هذا الخيال وحده ما يكفي لتدمير أي علاقة إنسانية بين طرفين مهما كانت قوة مشاعر أحدهما تجاه الآخر ، وصدق من قال أنه ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه وما سعد امرؤ أعماه الكبر والغرور عن حقائق الحياة . يا سيدتي إنني آسف حقا لاضطراري إلى توجيه هذه الكلمات القاسية لك , لكن عذري فيها أنك قد عرفت من البداية إنك لن تجدي عندي سواها وعذري أيضا إنني أرثي لحال طفلتك الصغيرة التي حرمت بلا مبرر من حقها في الحياة الطبيعية الآمنة بين أبويها . لكني على أية حال لا أستطيع أن أتجاهل نغمة مراجعة النفس والإقرار بالخطأ التي تسود رسالتك . فلا شك أن هذه النغمة تحول جديد في شخصيتك وفي فهمك للموقف لكن الإقرار بالخطأ لا يكفي وحده لإصلاح ما أفسده العناد والكبرياء والافتراء على الغير ما لم يستتبعه الندم الصادق عليه و " الفعل" الذي يكفر عن هذا الخطأ أو يقلل من أضراره "وکفارة الذنب الندامة" كما يقول لنا معلم البشرية صلوات الله وسلامه عليه، وإصلاح ما أفسدت بينك وبين زوجك يتطلب منك أن تتنازلي على الفور عن كل ما أقمت ضده من دعاوی کیدية و ليس استرضاء له وإنما استرضاء لمن هو أكبر منا شأنا وأعز وهو العادل الذي حرم الظلم على نفسه سبحانه وتعالى واعتذارا إليه ، ورجاء لمغفرته وانتصارا للحق والعدل . واحتراما للنفس وكراهة لأن تقبلي لها بالافتراء على الآخرين .

ولا شك أنك حين تفعلين ذلك إحقاقا للحق وليس جزءا من صفقة أو حل وسط بينك وبين زوجك ، فإنك تكونين قد فتحت بالفعل صفحة جديدة في حياتك وتطهرت حقا من كل أخطاء الماضي ، ووفيت بحق طفلتك عليك وأصبحت جديرة بأن يتمسك بك زوجك ويسعى إلى استئناف الحياة معك  

نشرت في جريدة الأهرام وفي كتاب أيام السعادة والشقاء
راجعها واعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات