الأيدي الناعمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
رسالتي إليك
هذه ليست قصة سينمائية، لكنها قصة حقيقية أنا بطلها.. وكل كلمة فيها صادقة حتى لو
بدت لك غريبة، لذلك أرجوك أن تصدقني في كل ما سأرويه لك: وإن كنت لا أعرف لماذا
أكتبها إليك فإني على أي حال شعرت بالارتياح عندما قررت أن أكتب لك.
أنا شاب في
الثلاثين من عمری نشأت في أسرة ثرية، كان أبي شديد الولع بلعب القمار ومدمنا لشرب
الخمر. وكنت أنا الطفل المدلل للأسرة كلها لأني أصغر إخواتي أو آخر العنقود كما
يقولون، وكنت رغم صغر سنی أستطيع أن ألحظ بسهولة حالة أبي حين يعود إلينا في الفجر
مخمورا يتطوح، وكنت أعرف أنه يمضي لياليه حتى الصباح يلعب القمار ويخسر مبالغ
كبيرة ثم يندب حظه في اليوم التالي. وعرفت في صباي معاني غريبة لكلمات غريبة كان
يرددها دائما.
فهو يتحدث
كثيرا عن الحظ.. والنحس والتفاؤل والتشاؤم! ويتفاءل بأشياء ويتشاءم من أشياء. وكان
لنا قريب إذا زاره يوما امتنع أبي عن الخروج والذهاب إلى السهرة لأن خروجه في هذه
الليلة يعني أنه سوف يخسر كل ثروته على مائدة القمار.. لأن قریبی، هذا كان يقول
أبي "نحس"! وكان أبي إذا غادر البيت وشاهد قطة سوداء في العمارة أو أمام
باب الشقة اكفهر وجهه وأيقن من الخسارة هذه الليلة وغالبا ما كان يذهب ويخسر مئات
الجنيهات ويعود يتحدث عن الحظ وسوء البخت ! وكانت فاتورة الكهرباء أو التليفون إذا
جاءت بمبلغ ينتهي برقم فردي يتهلل وجهه ويؤمن بأنه في برج حظه .. ويذهب للعب سعيدا .. أما
إذا جاءت برقم زوجي فيكون يوما كئيبا على كل أفراد البيت لان ذلك نذیر بالخسارة! وبالرغم كنت
متفوقا في دراستي والتحقت بكلية الهندسة ولكني في مرحلة الدراسة الجامعية وجدت نفسي أحاول أن أقلد أبي في
حياته .. وفي حديثه عن الحظ والتفاؤل والتشاؤم.. وكان يتجاوب معي ويعطيني نقودا
كثيرة.. وشيئا فشيئا وجدت نفسي عن طريق أصدقاء السوء ألعب القمار وأشرب الخمر
وأسهر كل ليلة.. فلا يزيد لوم أبي أو أمي لي عن كلمة عتاب بسيطة .. وكان طبيعيا
بعد ذلك أن تتعثر دراستي فرسبت عدة سنوات في السنة الثالثة بكلية الهندسة وفصلت
منها. فحقدت عليها وعلى كل الكليات في مصر.
ثم مات أبي
بعد ذلك بفترة قصيرة فعشنا حياتنا كما كنا ننفق من إيراد أملاكه وما بقي من
مدخراته القليلة والغريب أن إخوتي جميعا لم يكملوا دراساتهم.. ولم يعملوا في أي
عمل بالثانوية العامة لأنه لا يليق بمركز الأسرة.. وكان كل منهم يأخذ مصروفه
الشهري من أمنا بعد وفاة الأب
فينفقه في سهراته، وكنا جميعا نشرب الخمر ونلعب القمار بدرجات متفاوتة. لكن حياتنا
شهدت تطورا خطيرا هو وفاة الأم.. وتوزيع ما بقي من الثروة علينا.. فهنا انطلق
الجنون داخلنا جميعا وتحولت حياتنا إلى "تفرغ" تام لإنفاق النقود.. بلا
تفكير في المستقبل..
وكلما أعوزتنا
النقود بعنا معا بعض ما نملك حتى جاء يوم بعنا فيه الشقة الكبيرة التي نعيش فيها
والتي ورثناها وتقاسمنا ثمنها، وانتقلنا للسكن في شقة أصغر وواصلنا حياتنا نركب
السيارات. ونصاحب الفتيات.. ونلهو والغريب أن أحدنا لم يفكر في أن يستثمر ماله في
مشروع تجاري .. أو في مشروع مشترك بيننا لنضمن دخلا ثابتا يحفظ لنا حياتنا.. وإنما
راح كل منا ينفق من مدخراته كأنها بحر لن ينفد أبدا ليحافظ على مظهره ومظهر الأسرة
الثرية!
ورغم أننا كنا
نعرف أننا نسير إلى الهاوية.. إلا أننا "فوجئنا" بأننا قد أصبحنا ذات
يوم وليس معنا ما يكفي لنفقات حياتنا، فراح كل من إخوتي يبحث عن رزقه بطريقته..
فعمل هذا في إحدى الشركات براتب صغير.. وعمل ذاك في محل تجاري لدى بعض المعارف
وعمل ذاك مندوبا للتأمين.. وبدأت الحياة تتجهم في وجوهنا..
أما أنا فقد
رفضت الاستسلام لفكرة أن أصبح فقيرا أعيش حياتهم
بعد أن كنت
ثريا لذلك لم أعمل! وكان حولي نفس الأصدقاء الذين عرفت على أيديهم طريق الخمر
والقمار والفراغ. وكنا أصحاب خبرة بالسيارات لأننا نركبها من صغرنا فقررت أن أسرق
السيارات، وسرقنا في البداية محتويات سيارة وقمنا ببيعها، ووجدت النقود السهلة مرة
أخرى في يدي فحافظت على مظهري أمام الجميع ثم سرقنا سيارة أخرى وثالثة وأصبحت ثريا
من جديد، لكن – يا لسوء الحظ! - وقعنا في أيدي العدالة أو ما يسمونها
"بالعدالة" وهي لا تعرف معنى الرحمة ولا طريق الشفقة! فقد قضت على كل
منا بالحبس ستة أشهر، ودخلت السجن وخرجت منه ولا أريد أن أقص عليك ما رأيناه في
السجن من أهوال وعذاب وضرب و سباب وغيره، فجعلني السجن أكره بلدي وأحقد عليها،
وحاولت بعد ذلك أن أجد عملا فلم أستطع لأن أحدا لا يريد "المشبوه" أن
يعمل عنده، فقررت السرقة لكي أعيش، وسرقت سرقة تافهة لأغطي مصاريفي النثرية إلى أن
أدبر سرقة كبيرة تلبي لي مطالبي.. فكان يوما مشئوما .
فقد وقعت في
أيدي رجال الأمن فضربوني ضربا مبرحا بكل قوتهم ثم ترکوني، فعدت للسرقة من جديد
وسرقت أشياء ثمينة وجدت بعد ذلك أنني حاولت أن أسرق رجلا بالإكراه لكن لسوء حظي
مرة أخرى وقعت من جديد في أيدي رجال الأمن، وفي هذه المرة لم يكتفوا بضربي
"بكل قوتهم" فقط.. وإنما قدموني للمحكمة أيضا فحكمت علي بالسجن لمدة 5 سنوات، فهربت
وسرقت مرة أخرى وبالإكراه ولسوء حظي أيضا وقعت في يد رجال الأمن فضربوني بكل قوتهم
وقدمونی للمحكمة فحكمت علي بتضعیف المدة أي بخمس عشرة سنة، لكني تمكنت من الهرب
مرة أخرى، وفي هذه المرة قررت ألا أعود للسرقة لكي لا أقع في أيدي من لا يرحمون،
وحاولت أن أحافظ على مركز الأسرة أمام الأقارب والمعارف بعد الإفلاس فلم أجد طريقا
مفتوحا أمامي غير السرقة لكني لا أريده لأني لا أريد دخول السجن.
واهتديت أخيرا
إلى الطريق الذي يريحني من الذل والهوان الذي ألقاه كل يوم في حياتي ومن الخوف من
الرجوع للسجن.. وهذا الحل هو الانتحار لأن الحياة أصبحت شرا يجب التخلص منه، فقل
لي بربك هل هناك طريق آخر لمن في مثل ظروفي غير الانتحار.. إنني أريد أن أسمع رأيك
وأنا في مفترق الطريق.. وصدقني أن كل ما قلته لك صحيح وليس فيلما من الأفلام فماذا
تقول لي؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
إنك لست في
حاجة للانتحار.. لأنك انتحرت بالفعل منذ زمن طويل حين سرت في طريق الخطيئة
والجريمة والضلال! والحق أنني کدت لا أصدق رسالتك هذه لولا أن بها نغمة عجيبة لا
تصدر إلا عن شخص منحرف بالفعل، هي أنك لا تعاني من أي شعور بالذنب تجاه كل ما صنعت
!! فالمسألة كلها من وجهة نظرك ليست سوى مسألة سوء حظ لا أكثر ولا أقل !! فسوء
الحظ هذا هو الذي أوقعك في أيدي "ما يسمونها بالعدالة" فحكمت عليك وعلى
رفاقك المنحرفين بالحبس ستة أشهر .. وسوء الحظ هو الذي أوقعك في أيدي رجال الأمن
التي لا ترحم فضربوك "بكل قوتهم"! وتركوك مرة، ثم وقعت في أيديهم مرة
ثانية فلم يتركوك لسبب بسيط جدا" هو أنك كنت تسرق رجلا بالإكراه!
لقد اعتدت أن
أخاطب أصحاب الرسائل بعبارة يا صديقي.. لکني عاجز عن استخدامها معك.. لا لأنك سارق
أو منحرف وإنما لأنك لا تحس بأي "خطأ" في ذلك، کما لو كان أمرا طبيعيا..
وهذا
أكد لي أنك
أبن طبیعی لبيئتك وظروفك وهي بيئة انهار فيها المثل الأعلى منذ زمن طويل، حين كان
يعود للبيت مترنحا من شدة السكر، وحين كان يبدد ثروته وعمره في القمار بلا إحساس
بالمسئولية، وحين كان يربط ربطا خاطئا بين أسباب ونتائج لا علاقة بينها.. كالربط
بين قطة سوداء وبين الخسارة في اللعب. لقد أورثك أبوك "قيمه" العظيمة
هذه وأخطرها هذا القلب الصخري للمقامر الذي لا يهتز وهو يعبث بالألوف التي قد تذهب
للعدم وقد تجئ.. وما أظن أن مثل هذه البيئة كان يتردد فيها ولو من باب المصادفة
شيء عن القيم الدينية والروحية واحترام حقوق الآخرين أو عن مسئولية الإنسان عن
تصرفه وعمله أو عن
الثواب والعقاب، فاختلت القيم لديك اختلالا شديدا.. حتى أنك لترى أن من حقك أن
تسرق رجلا بالإكراه لأنك تريد بعض كماليات لتحافظ على "مرکز" الأسرة
أمام المعارف فأي "مركز " هذا.. وأية أسرة هذه.. وأي معارف هؤلاء عليك
وعليهم اللعنة أجمعين.
ثم أي اخوة
هؤلاء الذي يسيرون في الحياة كأنهم مساقون إلى مصير لا فرار منه.. بلا أدني إحساس
بالمستقبل.. وبالمسئولية حتى أنهم "يفاجأون" بتفاد الثروة.. وهم يبددونها
تبديدا كل يوم.. بلا أي محاولة للعمل والكفاح لكسب القوت.
والعجيب أنك "غاضب" من
العدالة لأنها سجنتك.. وتربط نفس هذا الربط العجيب بين الأسباب والنتائج.. فأنت
تفشل في دراستك
وكانت لديك كل
أسباب النجاح.. فلا تكون النتيجة هي أن تغضب من نفسك أو تحملها مسئولية الفشل!
إنما تكون النتيجة "المنطقية" بالنسبة لك هي أن تحقد على الكلية وعلى
الكليات في مصر!!
وأنت تدخل
السجن لتصرفك وانحرافك.. فلا تغضب من نفسك التي عرضتك لهذا الهوان، وإنما تكون
النتيجة "المنطقية" بالنسبة لك هي أن تكره بلدك وتكره الآخرين.. لأنك
"یا حرام" قد سجنت من أجل بعض المسروقات!
أنت إنسان عجيب حقا ويحيرني في
أمرك أنني لا أعرف سببا لهذا "الاعتزاز " الغريب بنفسك التي ينبغي أن
تتوافر لها كل الكماليات بلا عرق لأنك لا يصح أن تحيا كالفقراء التعساء الذين لا
يعرفون مصدرا للقوت الشحيح سوى عمل أيديهم!
ترى ماذا جرى
للقيم.. أما زالت القيم فيها والفضائل فضائل.. أم جرى عليها ما جرى على معظم أوجه
الحياة؟!
إنك لست
أنانيا فقط - نتيجة للتربية الخاطئة والتدليل المعيب والقدوة السيئة . بل أنت
نرجسي شدید النرجسية.. تعبد ذاتك وتری أن الكون لابد أن يسخر لخدمتها وراحتها ورفاهيتها!!
وأمثالك كثيرون بكل أسف في الحياة.. وفي هذا الزمن الردئ ومن العجيب حقا أن معظم
المصابين بهذا الداء اللعين - النرجسية وحب الذات -
هم ممن يعجز
العقل أن يجد سببا وأحدا مقنعا لإعجابهم بأنفسهم "وتقديسهم" لذواتهم..
وهي غالبا "ذوات" مثيرة للاشمئزاز والقرف! أو ذوات جوفاء لو دققت فوقها
لسمعت رنين الخواء النفسي والقيمي عاليا منها؟
إنك تقول لي.. إنك لا تجد أمامك سوى الانتحار وتطلب نصيحتي.. وأنا أقول إن مثلك لا يقدم أبدا على إيذاء ذاته "المقدسة" التي يؤمن في أعماقه أنها أفضل من ذوات الآخرين، ولا بأس من توفير كل أسباب الرفاهية لها على حساب الآخرين، فمن هذه الناحية أبشر بطول سلامة - وبطول الهرب من مواجهة الواقع و تحمل نتائجه كما يفعل الرجال.. أما إذا أصررت على طلب رأیی فسأقول لك ما أعرف مقدما أنه لن يعجبك، ولن تعمل به وهو كن رجلا مرة واحدة في حياتك وادفع ضريبتك العادلة للحياة وللمجتمع قصاصا لما ارتكبت و تحمل عواقب عملك.. جرائمك.. وأخرج للحياة بعد عدة سنوات وقد تعلمت مهنة شريفة تكسب بها قوتك كما يفعل الرجال، وكما يفعل الشرفاء، ثم عش حياتك بعد ذلك بضمير مستریح آمنا ۔ بدلا من أن تعيش حياة الهارب إلى أن تقع - لسوء الحظ !! في أيدي ما يسمونها العدالة ذات يوم فتدخل السجن وأنت مازلت غير مقتنع "بضرورة" ذلك ولا بأهميته؟
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر