الآثار الجانبية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1997
الحق أن الإنسان قد يدفع أحيانًا ثمنًا غاليًا لعجز الأبوين ، أو أحدهما عن أن يوفر له ما يحتاج إليه كل طفل ؛ لكي ينشأ سويًا وقادرًا على التفاعل السليم مع مؤثرات الحياة ، وهو الطفولة السعيدة الآمنة .
عبد الوهاب مطاوع
خلافا لعادة
بعض قرائك الذين يقولون لك دائما في بداية رسالتهم أنهم لم يتخيلوا أن يجيء يوم
يصبحون فيه أبطالا لبعض مشاكل بابك العزيز ، فإني كنت أشعر - منذ بدأت أقرأ لك قبل
عشر سنوات - أنه سوف يجيء حتما اليوم الذي سأكتب لك فيه لأروى قصتي ، ولكن مشاغل
الحياة شغلتني إلى أن حدث منذ شهرين ما جعلني في أشد الاحتياج إلى ذلك .
فأنا سيدة في
الخامسة والثلاثين من عمري، نشأت في أسرة مكونة من أبي وأمي ، وعدد من الإخوة ،
كان ترتیبی بینهم الابنة قبل الأخيرة ، وكان أبي يشغل مركزا محترما ، وأمی سیدة
طيبة ، لا تعرف من الدنيا سوی بیتها وأبنائها.
ومنذ وعيت
للحياة ، وأنا لا أرى ولا أسمع في بيتنا سوى الشجار والضرب من جانب أبي لأمي
المسكينة بسبب ولغير سبب ، وحين اسأل أمي عن سر هذه الأحوال المؤلمة ، تجيبني بأن
أبي لم يكن بين الرجال من هو مثله في طيبته وحنانه ، إلى أن تعرف بشلة من أصدقاء السوء ، كانوا السبب في
تغيره ، بالإضافة إلى عصبيته وحدة مزاجه ، فعشت أيام طفولتي ، وأنا أخاف من اقتراب
الليل ، ومن الاستغراق في النوم ليقيني أنني سأصحو منه بعد قليل مفزوعة على صوت
الدق العنيف على باب الشقة ، ثم يدخل أبي ويوقظنا جميعا ، ویمارس هوايته في الشجار
والضرب ، ثم ننزوى في النهاية أنا وأخي الأصغر في حضن أمنا خائفين مرتعبين حتى
الصباح .
وهكذا مضت
أيام الطفولة غير السعيدة ، لم أشعر خلالها بعطف الأب ولا حنانه ، ولم أحس بما يحس
به الأطفال من أمان وسعادة ، ورغم ذلك فلقد واصلت تعلیمی بهمة ، وواصله كذلك كل إخوتي
، وقد ترسخ في ذهن كل منا وبطريقة تلقائية ، أنه لن ينفعه أحد أو شيء في الحياة
سوى تعليمه ، فحرصنا على التعليم ، كأنما هو طوق النجاة الذي سينقذنا من هذا
الجحيم ، وأصبح هم كل واحد منا هو أن ينهي تعليمه ، ليهرب من بيت الأسرة في أقرب
فرصة ، فشق طريقه في التعليم ، متباعدا عن باقي إخوته في انتظار يوم الخلاص ، ولم
ينشأ أي ترابط بيننا للأسف ، فيما عداي أنا وأخي الأصغر اللذين جمع بيننا صغر السن
والخوف .
ومضت السنوات
، وتخرج الإخوة - واحدا بعد الآخر وواحدة بعد الأخرى - واستقل كل منهم بحياته ، فتزوج
منهم من تزوج ، وسافرت مع زوجها من سافرت ، وبقيت أنا وأخي الأصغر ، وحدنا مع أمي
، في بيت الأسرة .
وحين بلغت
الثانوية العامة ، توفى أبي فجأة وهو في عنفوان قوته وصحته على إثر حادث أليم ، وعلى الرغم من
كل ما شكونا منه وعانيناه .. فلقد حزنت كثيرا على رحيل أبي ، الذي تمنيت أن أشعر
تجاهه بما تشعر به كل فتاة نحو أبيها . وبدأت مرحلة جديدة من حياتنا ؛ فتفرغت أمي
لرعایتي أنا وأخي الأصغر، ووفر لنا معاش أبي الكبير حياة كريمة ؛ فتمتعت بحنان أمي
الكبير ، رغم كل ما عانته من أجلنا، والتحقت بالجامعة وتعرفت بمن ارتبطت به بعد
ذلك .
واتفقنا على
الزواج فور تخرجنا من الجامعة ، وظننت أن الحياة قد ابتسمت لي بعد طول انتظار ،
فإذا بي أمرض ، وأنا طالبة بالسنة الثانية في كلیتی بمرض نادر وخطير لم يكن
الأطباء حتى سنوات قريبة قد اكتشفوا له علاجا ، وكان الموت هو نتيجته الحتمية ،
وبعد رحلة الحيرة بين الأطباء ، توصلنا لمن استطاع تشخیص هذا المرض ، وقال لنا إن
الأمل الوحيد هو جراحة عاجلة ومأمونة ، ولكنها سوف تخلف وراءها بعض الآثار
الجانبية ، فبدأت دوامة العلاج والجراحة ، وتعطلت عن مواصلة الدراسة الجامعية
عامين طويلين استغرقه علاجي، ووقف فتای معي في هذه المحنة ، وأصر على استكمال
مشوار الزواج ، رغم محاولتي معه لكي أعفيه من ارتباطه بی ، ليدعني لأقداري.
وتزوجنا بعد
أن سمح لى الطبيب بذلك ، وواجهنا معا صعوبات البداية المألوفة ، ووجدت في زوجي
رجلا فاضلا بكل معنى الكلمة ، وحنونا بكل ما يعنيه الحنان، وعاشقا لى ولبيته
ولابنتيه ، اللتين رزقنا الله بهما وجعلهما قرة أعين لنا ، وتحسنت أحوالنا المادية تدريجيا ،
والحمد الله، والتحقت ابنتي بإحدى مدارس اللغات ، واشتركنا في ناد کبیر ، وكل ذلك وأمي معي طوال الوقت ؛
لأن أخي الأصغر كان قد سافر للخارج ، وترك لى رعايتها .
والمشكلة التي
دفعتني لأن أكتب إليك بشأنها ، هو أنني كنت دائما أحب أمي حبا كبيرا ، وأحب زوجي
وابنتي حبا لا يوصف ، ولكني - ولسبب في أعماقي لا أدريه - كنت لا أريد أن أعبر لهم
عن حبي العظيم هذا ، وعلى حين كان من المفروض بعد أن خبرت الضرب والعنف والقسوة أن
أنفر من كل ذلك فإني على العكس من ذلك أضرب البنتين اللتين لا أحتمل أن تخدشهما
نسمة الهواء بقسوة شديدة ، كما أعامل زوجي الذي أحبه أيضا بجفاء غير مفهوم ، أما
أمي التي لا أظن أن في الدنيا أما قدمت لابنتها ما قدمته لى ولإخوتي ، وهي المضحية
دائما بنفسها وراحتها من أجلى والمتفانية في خدمتی وخدمة ابنتی ، حتى لقد ربت
البنتين ، وكانت تصحو من نومها في نصف الليل لترعاهما ؛ حتى لا توقظني ، ولم تبخل
عليها بشيء مهما غلا ثمنه .
أمي هذه یا
سیدی ، کنت لا أعبر عن حبي لها أبدا ، وكنت للأسف أتعامل معها بعصبية وضيق صدر ؛
فلا تغضب مني أبدا ، ولست أعرف : هل ما لقيته في طفولتی من عناء وخوف وقلق ، هو
السبب في ذلك ، أم أنني قد أصبحت عصبية ؛ بسبب الجراحة التي أجريت لي في صدري ، ومضت حياتنا
على هذا النحو حتى حدث ما زلزل کیاني ، فمنذ شهرين رحلت أمي عن الحياة فجأة بعد
مرض ، لم يمهلها سوى ثلاثة أيام .
لم أفعل یا
سیدی ، وأشعر بلسع الندم القاسي على ذلك ، ولا أفعل الآن ذلك مع زوجي وابنتي ، ولا
أعرف السبب ولا أجد تفسيرا له ، مع إني أعرف دینی وأؤدي فرائضه ، وأعلم ابنتي
الصلاة وتعاليم الدين، وأنا الآن أرتدي السواد ، ليس حدادا فقط على أمي ؛ لأني
أعرف تعالیم دینی بهذا الشأن ، وإنما لأن السواد يعكس ندمي على تحفظي في إبداء مشاعري تجاه أمي
، وندمي على فلتات عصبیتی معها ، کما يعكس حالتي النفسية ، وزهدي في الحياة ، وفي
كل شيء .. فكيف أستعيد بهجة الحياة ، كما يطالبني من حولي ، وأنا التي لم أشعر بها
مطلقا من قبل ، وكنت منذ طفولتي فتاة حزينة ؟ إنني لا أعرف ماذا ينقصني لكي أكون
إنسانة سعيدة .. فهل عندك ما تقوله لي يا سيدي ؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
نعم يا سيدتي ، عندي الكثير الذي
أقوله لك عن الآثار الجانبية ، التي مازلت تعانين منها ، وانعكست عليك في بعض
سلوكك تجاه الحياة والأعزاء من حولك ، ولست أقصد بذلك الآثار الجانبية لتلك
الجراحة ، التي أجريت لك منذ بضعة أعوام ، وإنما اقصد به آثار تلك النشأة الخائفة
الحزينة في بيت مضطرب بالقسوة والعنف والشجار الدائم ، وينطوي فيه كل ابن من
الأبناء على نفسه ، عازفا عن الارتباط بالآخرين ، ومركزا كل أمله في يوم الخلاص القريب
من هذا الجحيم !
فهذه النشأة
الخائفة هي الجراحة القاسية الحقيقية التي تعرضت لها، فاستأصلت من أعماق نفسك
للأسف أحاسيس الأمان والثقة في الغد ، والابتهاج بالحياة ، والتفاؤل بالمستقبل ،
والحق أن الإنسان قد يدفع أحيانا ثمنا غاليا لعجز الأبوين ، أو أحدهما عن أن يوفر
له ما يحتاج إليه کل طفل ؛ لكي ينشأ سويا وقادرا على التفاعل السليم مع مؤثرات
الحياة ، وهو الطفولة السعيدة الآمنة .
وبعض ما
تعانين منه الآن ، هو من بقايا هذا الثمن الباهظ لحرمانك من هذه الطفولة الهانئة المستقرة ، فلقد
تأملت طويلا ما تقولين من أن إخوتك في شدة معاناتهم للخوف والشقاء في بيت الأسرة ،
قد جعل كل منهم هدف حياته ، هو أن ينهى تعليمه ليفر ناجيا بنفسه من هذا الجحيم ،
وأنهم خلال انشغالهم بهذا الهدف ، الذي كان يمثل لهم طوق النجاة ، لم ينشأ بينهم
أي ترابط ، مع أن وحدة الشقاء قد تقرب بين من يشتركون فيه ، وقد تزيد من ترابطهم
في وجه مصدر هذا الشقاء ، وقد تزيد أيضا من تعاطفهم فيما بينهم كمحاولة لتعويض بعض
ما حرموا منه من عطف الأب وحنانه ، ولكن حيرتي لم تطل كثيرا أمام ذلك ؛ لأن
التعاسة کما تجمع بين التعساء - في معظم الأحيان - فإنها قد تفرق بينهم أحيانا ،
وتذكرت على الفور ما قاله الأديب الروسي العظيم ، أنطوان تشيكوف ، من أنه في بعض
الأحوال ، التي قد يخيل إلينا فيها أن تشابه البلوى ينبغي له أن يربط بين المبتلين
.. فإنه قد تقع من الشرور ، أكثر مما يقع في أوساط الهانئين نسبيا، ولاشك أنه كان
من ميراث التعاسة بالنسبة لبعض إخوتك الذين عانوا جحيم الخوف والقلق الدائم لأسباب
الكدر وتنغيص الحياة ، أن تتنبه فيهم للأسف أحاسيس الأنانية، التي تحصر اهتمام
المرء في ذاته ، وكيفية الدفاع عنها ضد الخطر الذي يهدد أمانها كل لحظة ، وكيفية
النجاة بها من السفينة الغارقة .
وفي مثل هذه
الظروف غير المريحة .. فقد يتركز التفكير في "الأنا" .. ويتراجع التفكير
في "الآخر"، وينطوي كل فرد على نفسه متخذا موقفا حياديا جامدا من
الآخرين ، ولست أستطيع رغم إنکاری ذلك على من يضطرون إليه كحيلة دفاعية نفسية ، أن
ألومهم كثيرا على ما دفعهم إليه الشقاء من أنانية بعض التعساء ، ولكن اللوم - كل اللوم - على من
اضطرهم إلى ذلك ، وقتل فيهم مشاعر العطف الأخرى والترابط العائلي، وقد كان في
مقدوره أن يعفيهم من كل ذلك ، وأن ينشئهم تحت ظلال الحب الأسري ، والعطف الصادق ،
والقيم الصحيحة ، أما أنت يا سيدتي .. فلقد كان ميراثك من هذه النشأة التعيسة أن
رافقتك بعض بصماتها، التي لا مفر منها في بعض الأحيان ، خلال رحلة الحياة ،
فاكتسبت شخصيتك بعض الظلال والسمات الاكتئابية ، التي تدفع المرء لأن يستجيب لدواعي
الحزن والتشاؤم ، بأسرع مما يستجيب لدواعی الابتهاج والسعادة ، وإلى التوجس من
الغد وتوقع الكدر ، أكثر من الثقة في المستقبل والتفاؤل به ، وقد يكون من هذا
الميراث أيضا ما تحكين عنه من عجزك النفسي عن التعبير عن الحب الذي تحميلنه لأمك
وزوجك وابنتيك .
ولا
عجب في ذلك ، لأنه استمرار للخوف القديم في أعماقك من الإفصاح عن المشاعر الحقيقية
؛ تجنبا للمهالك والمتاعب من جانب أبيك ، فلا شك أنك حين كنت ترين أباك يضرب أمك
بقسوة و ينغص عليها حياتها ، كنت تشعرين غريزيا بالرغبة في الدفاع عنها ضده ،
وحمايتها منه ، وفي التعبير عن رفضك الصاخب لما يفعله بها أبوك ، وعن تعاطفك معها
، وكنت تدركين أيضا أنك لو فعلت ذلك .. فلسوف ينالك من بطش أبيك وقسوته جانب آخر ،
فلا تجدين إزاء ذلك مفرا من كبت مشاعر الغضب والحنق ، تجاه أبيك في نفسك ، وكبت
مشاعر التعاطف تجاه أمك أيضا إيثارا للسلامة ، وتسليما بالعجز عن تغيير الأوضاع الخاطئة
، فاكتسبت - من حيث لا تدرين - خبرة اضطرارية في كبت المشاعر ، وعدم الإفصاح عنها
، وتحولت هذه الخبرة - بمضي الزمن - إلى ما يشبه العجز النفسي عن التصريح بالمشاعر
، والإفاضة في التعبير عنها ؛ حتى أصبح ذلك سمة مستقرة من سمات شخصيتك لا تعرفين
أسبابها المباشرة ، ثم تواصل هذا السلوك من جانبك تجاه
أمك ، حتى بعد زوال الخطر الذي كان يمنعك من الإفصاح عن مشاعرك تجاهها ، وانسحب
هذا السلوك ، وهذا العجز النفسي أيضا في بعض مظاهره على تعاملك مع زوجك وطفلتيك ،
الذين تحبينهم جميعا أعظم الحب ، وتعجزين في الوقت نفسه عن التعبير لهم عن ذلك
بالكلمات ، حتى وإن استطعت التعبير عنه بالسلوك والأفعال !
والتعبير
عن مشاعر الحب العائلي والحنان أيضا خبرة ، يكتسبها الإنسان بالتجربة الشخصية أولا
حين يتلقاها ممن حوله ، وحين يشاهدها فيهم فيحاول تقليدها ، حتى تصبح سلوكا مستقرا
لديه ، ومن لم يخبر العطف الإنساني ، قد يصعب عليه أن يمنحه لمن حوله لأن إناءه لم
يتلق منه القدر الكافي الذي يسمح له بالعطاء للآخرين ، حتى ولو كانت بعض النفوس
الرضية الطيبة ، التي حرمت منه في حياتها تلهمها طبيعتها الخيرة إدراك أهمية ما
حرمت منه هي بالنسبة للآخرين ؛ فتعطي ما لم تأخذ من قبل .
ولهذا
... فقد قال أديب عظيم ، عاش طفولة قاسية ، تعرض خلالها للعقاب البدني المؤلم
مرارا من أبيه : كانت طفولتي خالية من
العطف ،
ومازلت حتى الآن انظر إلى العطف ، وكأنه شيء غير مألوف بالنسبة لي ، أو شيء لم تكن
لي به خبرة كبيرة من قبل .
ومع أنني من أنصار مبدأ أن من
عانى أشد الألم، ينبغي له أن يكون أرق قلبا وعاطفة تجاه الآخرين ، ممن لم يعرفوه
.. فإني لا أستطيع على الناحية الأخرى أن أغفل أثر هذا الألم نفسه على بعض النفوس
، فيما تكتسبه لا إراديا من بعض الجمود في المشاعر، وبعض التحفظ في إبداء العطف
الإنساني تجاه الآخرين .
وعلى ضوء ذلك
.. فقد تكون قسوتك على طفلتيك رغم حبك لهما ورغبتك الحقيقية في إسعادهما ،
وتجنيبهما كل ما عانيت أنت منه من خوف وحرمان من الحنان ، قد يكون ذلك تنفيسا
خاطئا ، عما تعرضت له في طفولتك من قهر وإيذاء نفسي من جانب الأب ، كما لو كنت
تقولين لنفسك أحيانا إنك تستطيعين الآن رد عدوان أبيك على أمك ، دون أن تخشى قهر
الأب لك ، أو كأنك تقولين في أعماقك حين تضربين ابنتيك بقسوة ، في أحيان أخرى ،
وماذا يكون هذا التأديب ، إلى جانب ما عانيت منه أنا ، وأنا في مثل عمريهما من
قسوة وعنف وخوف وتعاسة .
ولاشك أن كل
ذلك تحویل نفسی خاطىء لمشاعر القهر العنيف ، التي كنت تشعرين بها تجاه أبيك إلى الجهة
غير الصحيحة ، كما قد يكون لبعض ما ورثتيه عنه من بعض العصبية وحدة المزاج أثر في
ذلك ، فضلا عما قد يكون لتلك الجراحة التي أجريت لك أيضا من بعض الأثر عليك.
ولاشك أنك
تحتاجين إلى مراجعة نفسك في كل ذلك ، وتحتاجين أيضا إلى مراجعة نفسك فيما يتعلق
بمعاملتك لزوجك المحب المخلص بجفاء ، وفيما يتعلق بتحفظك في إبداء مشاعرك الحقيقية
تجاه الآخرين ، والتعبير عنها بحرية ، إذ يبدو أنك مازلت في حاجة لأن تقتنعی نفسیا
بأن الخطر الذي كان يحول بينك وبين التعبير الصحيح عن مشاعرك ، قد زال وانقضى إلى
الأبد ، فإذا كانت قد فاتتك فرصة ثمينة ؛ لأن تملئی عينيك من وجه أمك الراحلة ،
وتغرقيها في طوفان من مشاعر الحب والعرفان والامتنان لها وهي على قيد الحياة، فلقد
يخفف عنك بعض ندمك على ذلك أنها كانت - بغير شك - تدرك بقلب الأم كل ما تحملين لها
من مشاعر طيبة ، وتشفق عليك من ظروف طفولتك التعيسة ، ومما تعرضت له أيضا فيما بعد
من متاعب صحية شديدة ، فللقلوب أيضا حديثها الصامت وتفاهمها العميق يا سيدتي ، وإن
كان المرء يحتاج كذلك إلى ترجمة حديث القلوب هذا إلى لغة ناطقة .
والحق أننا في
حاجة دائمة ؛ لأن نعبر لمن نحبهم عن حبنا لهم ، وأن نسمع منهم أيضا ما يؤكد لنا كل
يوم حبهم لنا ، بالكلمات وليس بالتصرفات وحدها ؛ فالنفس راغبة دائما في أن يذكرها
الأعزاء كل يوم بحبهم لها ، واعتزازهم بها ، وليس الحب والتعبير العاطفي عنه حاجة
نفسية ضرورية عند الصغار فقط ، وإنه كلما تقدم العمر بالمرء زهد في ذلك كما يتوهم
البعض ، بل إننا على العكس تماما ، تزداد حاجتنا النفسية إلى ذلك كلما تقدم بنا
العمر ، ومن واجب الجميع أن ينتهزوا فرصة الأيام ، التي لا تطول ؛ لكي يعبروا عن
عواطفهم الحارة تجاه أعزائهم
بأحر الكلمات ، وأصدق التعابير تماما ، كما يتسارع حدیث المودعين إلى المسافرين من
نافذة القطار ؛ لكي ينهوا إليهم كل ما يريدون قوله لهم ، قبل أن تدق أجراس الرحيل
ويتحرك القطار!
ولن ينالنا
سوى الأسى ولسع الندم ، لو أضعنا الفرصة ، ورحل عنا الراحلون ، وفي نفوسنا غصة من
لم يمهله الوقت لیؤدی دیون الحب والامتنان لمن أخلصوا له الحب والعطف طوال رحلة
السنين ؛ فأكثری یا سيدتي من الترحم على والدتك الراحلة ، والدعاء لها كل يوم في
صلاتك ، وتصدقي بها يطمئن روحها في العالم الأفضل إلى أنها قد خلفت وراءها من
مازالت على الود والامتنان مقیمة ، وتدعو لها بالخير وحسن المآب ، وعوضى ما فاتك
من التعبير لها عن حبك في ابنتيك وزوجك ، وإخوتك الذين تصلين رحمهم ، وتعيدين ما
تباعد بينهم من روابط مع الأيام .
ولن تستطيعي أن تفعلي ذلك ، إلا إذا خرجت من دائرة الأحزان ، وتفاعلت مع الحياة ، واستجبت لمؤثراتها ، واسترددت إحساسك بمباهجها ، فمن لم يشعر ببهجة الحياة، لا يستطيع أن يهب السعادة للآخرين ، وأنت الآن مطالبة بإسعاد نفسك وزوجك المحب ، الذي تمسك باختياره لك في وجه الآلام والمتاعب ، وطفلتيك اللتين ينبغي لهما أن تجنبيها كل ما عانيت منه أنت في طفولتك من تعاسة وشقاء ، وقديما قال أحد الفلاسفة : هيا ننهض أيها الإخوان إلى الحياة .. فلقد طال جلوسنا فوق الأحزان !
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر