الشريدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987


الشريدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987


الشريدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987 

أنا يا سيدي طبيب شاب تخرجت منذ عشر سنوات تقريبا، وخلال فترة الامتیاز تعرفت بسيدة جميلة متدينة كانت مطلقة وتكبرني بسبع سنوات، ولديها بنت كانت وقتها في الخامسة عشرة، وعرفت قصة زواجها وطلاقها، وعرفت أن زواجها لم يستمر سوى ثلاثة شهور، وأنها تزوجت وعمرها 16 سنة ولم ينجح الزواج فانفصلت وتفرغت لتربية طفلتها ورفضت الزواج حتى كبرت الطفلة، واقتنعت بكل هذه الظروف وأحببتها وأحبتني وتزوجتها رغم معارضة أهلي، لكني تمسكت بها فتنازلوا عن معارضتهم وباركوا زواجي منها، ومضت بنا الحياة كأي زوجين بحلوها ومرها.. وكان حلوها أكثر. لأن زوجتي كانت دائما حريصة علي.

وانتهت فترة الامتياز وعينت في إحدى الوحدات الصحية في الصعيد، وسافرت معي زوجتي وبقيت ابنتها مع جدتها لأمها ترعاها. ولم نقصر نحن في حقوقها.. بل ولم تطل إقامة زوجتي معي في الصعيد، فلقد عادت إلى الإسكندرية لتشرف على إعداد شقة الزوجية التي وفقنا الله في الحصول عليها بعد عامين من العمل في الوحدة، وفي عيادة صغيرة افتتحتها في البلدة نفسها، وكنت قد رزقت بطفل وطفلة تركتهما مع زوجتي في الإسكندرية واعتدت أن أسافر إليهم كل شهر لمدة

4 أو 5 أيام وخلال ذلك لم ننس ابنة زوجتي بالهدايا والنقود وبالحنان، فلقد كانت موضع حنان جدتها وأمها وأنا أيضا حين أعود إليهم، لكنها شردت يا سيدي وبدأت تثير المشاكل كل حين، فلقد تمردت على جدتها وأمها وانفلت عیارها.. وأصبحت تريد أن تخرج وتدخل بلا حساب ولا سؤال ولا رقابة.. وأصبحت تسهر في الخارج وتعود متأخرة، وتثور إذا حاسبها أحد.. ثم جاءت الطامة الكبرى حين تركت البيت كله لعدة أيام ثم عادت فكان الشجار والعراك والبكاء.. وكل ذلك وزوجتي تكتم عني هذه المشاكل والكوارث وتبكي، حتى كانت إجازة من إجازاتي الطويلة أمضيتها بينهم.. فسمعت أصوات شجار بينهم عرفت منه حقيقة المأساة وسمعت شتائم وأسرارا مخجلة.. وأدركت هول الكارثة التي أعرض لها طفلي بترکهما بعيدين عني وسط هذا الجو.. وبالقرب من هذه الابنة الشاردة.. وناقشت زوجتي فيما سمعت فبكت.. وقالت لي ماذا أصنع.. وأبوها يرفض ضمها إليه خوفا منها على أبنائه الصغار من زوجته الجديدة .. وأنا وحيدة في غيابك، والبنت قد أفلت عیارها وأحاول بكل جهدي إصلاحها، فماذا أفعل؟

وحاولت التدخل لإصلاح شأنها فلم يرق لزوجتي تدخلي كما أن البنت تسمع للنصح لكنها لا تتأثر به.

 



ولكاتب هذه الرسالة أقول:

يا سيدي لقد لمست بنفسك أثار تمزق الأبناء بين الأب والأم.. فكيف تفكر في أن تكرر الجريمة في أبنائك؟ إن هناك طريقا آخر للتصرف في مشكلتك.. هو أن تضم أسرتك الصغيرة إليك سواء في مقر عملك في الصعيد أو في مقر سكنك بالإسكندرية، ليكون طفلاك تحت رعايتك المباشرة وتجنبهما أية مؤثرات سلبية تخشى عليهما منها.. فإذا تعذرت عليك الإقامة في الصعيد.. فلا مفر من التضحية بعيادتك هناك والانتقال إلى الإسكندرية والكفاح لكي تجد لنفسك موطئ قدم بين أطبائها الكبار.. ولا بأس بالمعاناة والصبر في بداية الطريق لأن الهدف كبير ويستحق المعاناة من أجله، وهو إنقاذ أسرتك وطفليك من التمزق.. وحين يحدث ذلك ينبغي عليك أن تتحمل مسئوليتك الكاملة عن أسرتك وعن هذه الابنة الشريدة أيضا، ولابد لزوجتك من أن تمكنك من محاولة إصلاحها وإنقاذها من الضياع.. لأنها في كفالتك.. ولأنها أيضا أخت ابنيك وما يخدش ثوبها يمس طفليك.. ولأنه أيضا لابد لأحد من أن يتحمل المسئولية عنها ما دام أبوها اللاهي بأسرته وأطفاله يتنصل من هذه المسئولية.. وهي رغم جريمتها ضحية في النهاية لتمزق أسرة.. ولتخلي أب عن واجبه في ضمها إليه ورعايتها في هذه السن الحرجة، فإذا لم تستجب لمحاولاتك معها.. يصبح من حقك إبعادها عن طفليك وضمها لجدتها، على أن تستمر في جهودك لإصلاحها وإذا جاز لي أن أطالب زوجتك بشيء فهو بأن تمكنك من أداء هذا الدور الإنساني المطلوب.. وأن تشتد في رقابتها أكثر ومهما كانت النتائج.. وأن تسعى جاهدة لتزويجها قبل أن تبحر أكثر في بحر الضياع.. وليس عليك في النهاية إلا النصح والنصيحة لأنك لا تهدي من أحببت لكن الله يهدي من يشاء.

أما زوجتك فقد أحسنت معاشرتك وحفظت لك ودك.. وهي أكثر الناس تعاسة بما آلت إليه حال ابنتها، فلا تضاعف تعاستها بالتخلي عنها في هذه المحنة القاسية.. ولا تعالج الخطأ بخطأ أكبر.. ولا تعاقبها بجريمة ابنتها الشريدة!

   *نشرت سنة 1987 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة


راجعها وأعدها للنشر
نيفين علي



Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات