الأشغال الشاقة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1991

الأشغال الشاقة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1991

من ظلم يُظلم ولو بعد حين ومن قهر من لا يستطيع رد ظلمه عليه ضعفاً وقلة حيلة .. جرعته الحياة نفس القهر الذي جرعه لغيره وربما اشد منه .والحياة كما يقولون ديون قد يتأخر سدادها بعض الوقت لكنها دائماً واجبة السداد في الدنيا وفي الآخرة .
عبد الوهاب مطاوع

أنا فتاة في الثامنة عشرة من عمري , لعلك تتساءل عن المشكلة التي يمكن أن تكتب إليك عنها فتاة في مثل عمري ينبغي أن تكون سعيدة في ظل أبويها ..فإذا كتبت فقد تكتب إليك عن عواطفها أو آمالها في الحياة .. لكني لن أكتب لك عن هذه ولا تلك .. فقد انفصل أبي وأمي وأنا في الثامنة من عمري وتزوجت أمي من آخر وسافرت معه إلى إحدى الدول العربية وتزوج أبي بعد انفصاله عن أمي من سيدة أخرى وأنجب منها طفلتين .

وحين تزوج أبي للمرة الثانية كنت تلميذة سعيدة بمدرسة أجنبية معروفة فأخرجتني منها زوجة أبي وألحقتني بمدرسة حكومية وليتها أخرجتني من مدرستي وتركتني أعيش طفولتي كما يعيش كل الأطفال .. لكنها راحت ومنذ طفولتي تتفنن في تكليفي بكل الأعمال المنزلية الشاقة رغم أن أبي ميسور ويستطيع لو أرادت أن يُحضر من تقوم بها .

وراحت منذ ذلك الحين ترهقني بكل الأعمال وتوقظني أحياناً في الثالثة صباحاً في عز البرد وتضع أمامي كومة من الملابس لأغسلها بيدي رغم وجود الغسالة الكهربائية وبحجة أن انتهي من غسيلها قبل موعد ذهابي للمدرسة , وتلقي علي من أعمال البيت ما لا استطيع احتماله فأقوم به بصبر وأفرغ منه بعد جهد وأجلس لكي ابدأ مذاكرتي فتجيء بجردل ماء وتلقيه في أرضية أي غرفة انتهيت من تنظيفها وتأمرني بإعادة مسحها كما ينبغي لأنها غير نظيفة !

وكلما أرهقني العمل وأردت أن اختلس بعض لحظات الراحة دخلت إلى الحمام لأحتمي به من مطالبها التي لا تنتهي .. فتجيء بعد دقائق وتدق علي الباب حتى تكاد تكسره لكي اخرج وأواصل الأشغال الشاقة .

ولقد كنت استطيع أن أتحمل هذا العذاب لو كان أبي يخفف عني ما ألاقيه .. أو على الأقل يصبرني عليه , لكنه يا سيدي قد " تعلم " القسوة منها ويضربني من اجلها ويعلل عبء الإعمال المنزلية التي تلقيها عليَّ بأن كل فتاة يجب أن تؤديها وتتعلمها ...مع أنهما يبالغان في تدليل الصغيرتين في نفس الوقت ولا يكلفانهما بأي عمل ويغدقان عليهما بالمال والملابس الجديدة الغالية ..

 

أما أنا فليس لي سوى الملابس القديمة التي تتخلص منها ابنة أختها وقد ألحقتهما زوجة أبي بنفس المدرسة الأجنبية التي أخرجتني منها ...وكل ذلك وأهل أمي يحاولون ضمي إليهم لأعيش معهم وأبي يرفض وينهرهم ويطردهم من البيت إذا جاءوا ويرفض أن يسمح لي بمقابلتهم.


 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 

الحل هو أن تنتبه الضمائر الغافلة إلى ثقل مسئوليتها أمام الله سبحانه وتعالى وتتهيب عقابه .. فكل راع مسئول عن رعيته .. وأبوك مسئول عن رعايتك وكفالتك والعدل معك , وزوجة أبيك مسئولة مسئولية مماثلة لأنك أصبحت وديعة بين يديها منذ وضعتها الأقدار في موضع أمك ..فإن لم تحرك هذه الأمانة التي تنوء من ثقلها الجبال ضمائر البشر فمن يحركها ؟ ...ومن يذكر زوجة أبيك بأن من يظلم يُظلم ولو بعد حين ؟ ..

وأن من قهر من لا يستطيع رد ظلمه عليه ضعفاً وقلة حيلة .. جرعته الحياة نفس القهر الذي جرعه لغيره وربما اشد منه .

 

والحياة كما يقولون ديون قد يتأخر سدادها بعض الوقت لكنها دائماً واجبة السداد في الدنيا وفي الآخرة .

 

بل ومن ينبه زوجة أبيك إلى أنها بتمييزها لابنتيها عليك إنما تشركهما معها من حيث لا تريد في سداد فاتورة الحساب هذه على رغمهما لان الطفل الذي يشعر بتمييز أبويه له عن أخيه ويستطيبه ينشأ غالباً أنانياً مستهتراً مدللاً غير قادر على الاعتماد على نفسه ...ينتظر من الحياة أن تخصه بجوائزها وحده ويتصور أحقيته في ذلك كما اعتاد أن يفعل في دائرة أسرته المحدودة فيصطدم باختبارات الحياة القاسية وينهار أمامها ضعفاً أو سخطاً فلماذا تريد زوجة أبيك لطفلتيها هذا المصير ؟

 

إن الحل يا آنستي هو أن تحتمي زوجة أبيك من شدائد الحياة هي وطفلتاها بالعدل معك والرفق بك , وأن يكون أبوك أكثر عدلاً بين رعاياه وأكثر " حضوراً " في الإشراف على إدارة مملكته الصغيرة وأن يراقب معاملة زوجته لك بالعدل والحزم الواجبين وأن يسوى بينك وبين أختيك في الرعاية والتدليل والملابس والمال وكل شيء , وأن يستعين بماله على استخدام من يخفف عنك هذه الأعمال المنزلية , فإن لم يستطع فليقسمها بالعدل بين الجميع ...ولا شك انك تستطيعين محادثته في ذلك بما ينبغي من ود وصراحة بين الابنة وأبيها كما تستطيعين أيضا أن تحاولي رغم كل شيء كسب ود زوجة أبيك ومخاطبة قلب الأم فيها لأنه حتى أقسى القساة لا تخلو قلوبهم في معظم الأحيان من بعض جوانب الرحمة التي تحتاج لإظهارها إلى العزف على أوتارها .

 

كما تستطيعين أيضاَ أن توسطي بينك وبين أبيك بعض أقاربه وخاصة من يستريح هو إليهم ولا يحس حرجاً أمامهم إذا حادثوه في أمرك فإن لم تثمر كل هذه المحاولات المرجوة ...فليستجب أبوك إذن لنداء الرحمة ويسمح بضمك لأمك أو لأهلها ...فإن لم يكن هذا ولا ذاك فلا مفر من أن تتحملي أقدارك إلى أن تنهي دراستك وتبلغي سن الرشد وتستطيعي تحمل مسئولية قرارك .

فاصبري يا فتاتي وواصلي " تحايلك " على استذكار دروسك التي تجند أُسر أخرى لها كل إمكاناتها بل وتغير من نظام حياتها لكي توفر لأبنائها فرصة استذكارها ....

 

وثقي أن الله سوف يعينك على أمرك كما أعانك من قبل وسوف يحقق لك آمالك ويجزيك جزاء الصابرين إن شاء الله .


رابط رسالة "رسالة معطرة" تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ابريل عام 1991

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات