بدلة السهرة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004
هناك أشخاص يضيفون إلى الحياة الكثير ولا يأخذون منها للأسف إلا القليل .. ويضئ وجودهم حياه من حولهم .. ويخصم غيابهم الأبدي من جمال الحياة وخيريتها .. وهؤلاء ممن وصفهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه في معرض حديثه عن الأبرار والصالحين بقوله :
هم قوم لا يشقي بهم جليسهم ❤
نعم لا يشقي بهم جليسهم، إنما يسعد ويشعر بالثراء الروحي الذي تفيض به جوانحهم .. ويتمني المرء لو استطاع أن يحذو حذوهم وينهج نهجهم في الحياة .. لتزداد خيريتها وتنحسر مساحه الشر والقبح والأنانية فيها .
عبد الوهاب مطاوع
كنت أرغب في أن اكتب إليك قبل ذلك , لكن شاءت الأقدار أن تأتي رسالتي إليك في هذا الوقت بالذات.. فانا شاب نشأت في أسره مكونة من أبي الموظف الصغير بمصلحة الكهرباء .. وأمي ربة البيت الطيبة، وخمسه إخوة وأخوات أنا أصغرهم .. ونقيم كلنا في شقة من 4 غرف بالدور الأرضي بإحدى عمارات حي العباسية القديمة , ولقد تمتعت في طفولتي المبكرة بعطف أبي وأمي وإخوتي خاصة أكبرهم .
ثم رحل أبي عن الحياة وأنا في عمر السابعة واكبر إخوتي في بداية عامه الثاني بكلية الهندسة , حيث كان أمله وأمل أبي أن يصبح مهندسا , فواجهت الأسرة مشكلة نفقات الحياة والدراسة لكل الأبناء.
فقد كان معاش أبي ضئيلا ولا يكاد يكفي لإطعامنا فضلا عن نفقات التعليم .. وذات يوم وجدت أمي تبكي بحرارة وإخوتي يطيبون خاطرها .. وعرفت من أختي والتي
تكبرني مباشره إنها حزينة من أجل ابنها الأكبر لأنه اضطر لكي يساعد إخوته وأمه إلى
أن يتوقف عن الدراسة ليعمل موظفا صغيرا بالمصلحة التي كان يعمل بها أبي , وبالفعل
عمل أخي موظفا صغيرا بمساعده زملاء أبي بالمصلحة , ولم يشك من أقداره ولم يتوجع ..
وإنما تقبل الأمر الواقع باستسلام ورضا وأصبح همه الأول هو إعالة إخوته وأمه ,
والحق إن أخي هذا كان منذ صغره إنسانا جادا يتحمل المسئولية , وكان أبي يقول عنه
إنه وُلد رجلا كبيرا وليس طفلا منذ البداية .. ومضت بنا الحياة وأصبح مرتب أخي
ومعاش أبي الضئيل هما موردنا الوحيد , وأصبحنا نحن الإخوة نتوجه بمطالبنا إلى أخي
هذا الذي أصبح أبا لنا ونحصل منه على مصروفنا الشخصي , وكان دائما واسع الصدر
ويتحمل حتى دلعنا ومغالاتنا في مطالبنا, ويحرم نفسه لكي يلبي طلباتنا, فكان يحرص
على ان نرتدي الملابس التي تحفظ علينا مظهرنا في حدود الممكن, ويقضي هو الأعوام
بقميصين وبنطلونين يبدلهما في الصيف ويضيف إليهما بلوفرا قديما في الشتاء , ولا
يشتري لنفسه قميصا جديدا إلا بعد إلحاح شديد منا ومن أمنا عليه , وحين ثقلت عليه
مطالبنا ونفقتنا بحث عن عمل إضافي وتنقل بين عده أعمال حتى استقر به المقام في
مكتب هندسي عمل فيه ساعيا بعد الظهر, وقبل ذلك بلا غضاضة .
ثم حدث ذات يوم أن بحث صاحب المكتب عن أحد مساعديه ليتولي تحبير رسم هندسي أعده فلم يجده , وغضب صاحب المكتب , فعرض عليه أخي ان يقوم هو بهذا العمل لإنقاذ الموقف , وسأله صاحب المكتب في عصبيه : وما شانك أنت بالرسوم الهندسية ؟ فأجابه أخي في استحياء , إنه كان طالبا بكلية الهندسة واضطرته ظروفه العائلية منذ سنوات للتوقف عن الدراسة , فاعتذر له صاحب المكتب عن حدته معه وكلفه بالرسم المطلوب ونفذه علي وجه مقبول .. فرقاه من ساع إلى رسام هندسي واستعان بغيره للقيام بعمل الساعي وعامل البوفيه , واستقر الحال بأخي في هذا المكتب عده سنوات كان دخله منه خير معين له علي مواجهه نفقاتنا , وتحسن مظهره بعض الشيء فاشتري لنفسه قميصين وبنطلونا بعد إلحاح شديد منا.وخلال هذه السنوات تقدم إخوتي في مراحل التعليم وبلغت أختي الكبرى المرحلة الجامعية.. وبلغ الأخ الذي يليها الثانوية العامة ووصلت أختي الوسطي إلى نهاية المرحلة الإعدادية , ووضعت أنا قدمي على بداية المرحلة الإعدادية , وكانت أجمل أوقاتنا حين نجتمع حول شقيقنا العطوف يوم الجمعة ونتسامر معه ونتبادل الأحاديث والأمنيات الطيبة .. ونتحدث عن المستقبل حين نتغلب علي ظروفنا , وكان أخي هذا مهموما علي الدوام بأمرنا ومشاكلنا, فهو يذهب معي للمدرسة ليقابل أحد المدرسين ويحل معه مشكله لي, ويذهب مع أخي طالب الثانوية العامة ليقابل الناظر ويحل مشكلة غيابه عنها لأسباب قهرية , وحتى المشاكل العاطفية كان يستمع إليها في صبر وفهم ويشير علينا بالرأي السديد, ولا يثور علينا ولا يتهمنا بأننا نعبث وهو يكافح لإعالتنا , بل يدافع عنا لدى امي حين تغضب منا وتقرعنا وتذكرنا بتضحيات أخي من اجلنا وكيف أننا ينبغي أن نقابلها بالجد للانتهاء من دراستنا وتخفيف العبء عنه, وكان يقول لها دائما كلما شكت من سلوك احدنا: إنهم شباب يا أمي ولابد ان يعبثوا بعض الوقت أو يخطئوا ثم يعودون للصواب في النهاية.
والحق إنني لا ادري حتى الآن من أين جاء أخي الكبير بكل هذه الحكمة والصبر, ربما لأنه تحمل المسئولية في سن مبكرة, وربما لتدينه وخشيته لربه, فلقد كان حريصا علي الفروض الدينية ولا يغضب من احدنا إلا إذا استشعر تقصيره في أدائها .. وبرغم شبابه المتفجر فقد صرف أخي تفكيره عن الفتيات تماما طوال تلك السنوات, ولم يفكر في الحب ولا في الزواج لان لديه كما كان يقول مسئوليه كبيره لابد أن يؤديها قبل أن يفكر في ذلك, إلى أن أحب بعد أن تجاوز الثلاثين فتاه تعمل معه في المكتب الهندسي وكتم هواه عنها لثقته من أن ظروفه لا ترشحه للارتباط بها, وظل علي هذا الحال عامين أدرك خلالها زملاؤه في المكتب أنه متيم بها في صمت وشجعوه علي مفاتحتها , وأكدوا له إنها تنتظر منه ذلك .. فتشجع أخيرا وفاتحها ورحبت به .. وأراد أن يخطبها لكن المشاكل المادية ومشكله السكن حالت للأسف بينه وبين تحقيق أمنيته , فلقد قبلت زميلته بكل ظروفه لكن أبويها رفضا أن تتزوج وتقيم معه في شقة الأسرة , واشترطا عليه ان يستقل بمسكنه عن إخوته وأمه أولا قبل الزواج , ووافقنا جميعا على ذلك لكنه لم يستطع تدبير شقه مستقلة ولم يتحمس للاستقلال بحياته عنا ونحن ما زلنا نحتاج إليه ونعتمد عليه , ولم تستطع فتاته إقناع أبويها باستعدادها للعيش مع أسرته أو لم تتحمس جديا لذلك فتنازل من جديد عن حلمه بالسعادة ولم يكمل مشروع الخطبة وترك العمل في المكتب الهندسي لكيلا يعذب نفسه برويه من أحبها بصدق ولم يستطع الارتباط بها, وبدا يعطي دروسا خاصة في الرياضيات لطلبه المدارس الإعدادية في البيت ورايته في هذه الفترة حزينا .. تطول فترات صمته وسرحانه, ويقضي أوقات فراغه في القراءة أو الصلاة أو الجلوس صامتا إلى جانب أمي.
ثم جاء خاطب لأختنا الكبرى وكانت قد تخرجت وبدأت العمل كمدرسه بعقد منذ شهور فرحب به أخي .. وتفاهم معه علي كل شيء ولم يرهقه ماديا .. وانشغل عن أحزانه بإعداد جهازها وتدبير التكاليف بشق الأنفس , واشرف علي كل شيء حتى تم زفافها وانتقلت إلى بيت زوجها بسلام.
ورحلت أمي عن الحياة وبكيناها
جميعا ودعونا لها بالرحمة والمغفرة , وانهي أخي الأوسط تعليمه واحتاج الي مبلغ من
المال لكي يسافر إلى أسوان , ويبدأ عمله بالشركة التي عين بها ويواجه نفقات حياته
إلى أن يقبض أول مرتب له, فدبر له أخي المبلغ المطلوب بالرغم من انه كان مثقلا
بأقساط ديون زواج اختنا, واستقر الأخ الأوسط في أسوان وأقام في شقه تابعه للشركة
فأرسل لأخي يطلب منه أن يرسل إليه اختنا الصغرى لتلتحق بالمدرسة الثانوية هناك
ويتحمل هو مسئوليتها فيخفف بذلك عنه بعض أعبائه , لكن أخي أشفق علي اختنا من البعد
عنا فرفض عرض أخينا شاكرا .
وعرضت أنا أن انضم إليه بدلا منها لنفس الغرض فرفض أيضا, وقال انه لا يتحمل فراقنا خاصة بعد رحيل أمنا وزواج اختنا. ومضت السنوات وتخرجت اختنا الصغرى .. وعملت وجاءها خاطب من أقاربنا يعرف كل ظروفنا ويقبل بها, فجهزها أخي للزواج وكبل نفسه من جديد بالأقساط والديون وهو لم يكد يفرغ من ديون زواج الأخت الأولى, وساعده شقيقي الأوسط الكيميائي بإحدى شركات أسوان بعض الشيء في نفقات الزواج , وساعدت أختي الكبرى أختها بجزء من مرتبها واشترت لها بعض احتياجاتها وزفت الأخت لزوجها .. وخلا البيت الكبير علي وعلي أخي , وازددت اقترابا منه ولاحظت عليه انه لا يكاد يخرج من البيت بعد عودته من المصلحة , وسألته لماذا لا يخرج ويتنزه ويلتقي بالأصدقاء, فأجابني بأنه سيفعل كل ذلك إن شاء الله حين يتخفف من أقساط زواج الأخت الصغرى.. وحصلت على الثانوية العامة بمجموع كبير, وترددت في اختيار كليه الهندسة إشفاقا على أخي من نفقات دراستها , خاصة أننا كنا قد فقدنا نصيب الأختين والأخ الكيميائي في المعاش.
لكن أخي ألح علي باختيار الهندسة , وأكد لي انه سيسعد كثيرا بان أحقق الحلم الذي حالت الظروف القاسية دون أن يحققه هو لنفسه, فالتحقت بالكلية ونجحت في السنة الإعدادية , وفي أجازه الصيف سيطرت علي فكره السفر إلى أمريكا للعمل خلال شهور الصيف كما فعل بعض أصدقائي الذين هاجروا قبل عام .. وعرضت الفكرة علي أخي وألححت عليه بان يساعدني في ذلك عسي أن استطيع جمع بعض المال للإنفاق علي دراستي , وواصلت الإلحاح عليه حتى استسلم في النهاية , ووافق علي مساعدتي بالرغم من رفض بقيه إخوتي لذلك ولومهم لي لعدم استكمال دراستي, وبعد عناء شديد حصلت علي التاشيرة واقترض أخي من جهة عمله مبلغا من المال ليساعدني في شراء تذكره السفر, وسافرت إلى أصدقائي وخضت التجربة وعانيت الكثير والكثير, وعملت غاسل صحون في البداية لمده12 ساعة كل يوم, فما أن استقرت أوضاعي بعض الشيء حتى كان العام الدراسي الجديد قد اقبل وحان موعد العودة , فعز علي أن اقطع التجربة في بدايتها , واتصلت بأخي استأذنه في البقاء بأمريكا لمده عام آخر واطلب منه أن يقدم لي اعتذارا للكلية وارجوه أن يوافق علي ذلك, وبعد إلحاح شديد وافق لكنه حملني أمانة أن استكمل دراستي أيا كانت الفترة التي اقضيها في أمريكا , وإلا فانه سوف يشعر بأنه قد أجرم في حقي حين وافق علي سفري , ووعدته بذلك صادقا., وبكيت حين قال لي انه يفتقدني ويفتقد صحبتي وضجيجي وحتى مشاكلي .. وانه قد أصبح وحيدا تماما بعد سفري , وسألته لماذا لا تتزوج يا أخي وقد جاوزت الأربعين, وتحسنت الظروف وأصبحت الشقة خالصة لك .. فوعدني بان يفكر في ذلك وانشغلت بحياتي الجديدة واستطعت بعد جهد جهيد الحصول علي الإقامة واستقررت في عمل أفضل .. وانتهي العام الثاني وحان موعد العودة لكني أشفقت علي نفسي من أن افقد إقامتي بأمريكا إذا عدت, فكتبت لأخي اشرح له ظروفي وارجوه ألا يغضب مني واطلب منه أن يبعث إلى أوراقي الدراسية مترجمه ومعتمده من وزاره الخارجية لكي التحق بإحدى الكليات في أمريكا وجددت عهدي له بان استكمل دراستي مهما كانت الصعوبات , وغضب مني إخوتي جميعا لذلك ما عدا أخي الأكبر الذي تسامح معي كالعادة وأرسل إلي أوراقي وجدد طلبه لي بإنهاء دراستي مهما حدث. وواصل هو حياته كأعزب وحيد وأرسلت إليه بعض النقود كرد لديونه علي .. وطلبت منه أن يسدد بها الأقساط المتراكمة عليه ويوسع علي نفسه ببقيتها وسدد أخي ديونه , وتنفس الصعداء .. وتحسنت أحواله, واسترحت حين علمت أن إخوتي لا يتركونه وحيدا لفترات طويلة وإنهم يزورونه باستمرار ويدعونه لزيارتهم, حبا له وعرفانا بفضله, كما ارتبط أخي الكيميائي بزميله له في أسوان وتزوجها هناك وأقام معها واجتمع إخوتي كلهم في ضيافته بأسوان , وشهدوا زواجه وسعدوا به ما عداي للأسف, لأني واجهت مشكله التجنيد وخشيت إذا عدت لمصر ألا استطيع السفر مره أخرى , وتوالت السنون وأخي يعيش وحيدا ولا شاغل له سوى متابعه أحوالنا والاهتمام بأمرنا .. والجلوس في المقهى في المساء بعض الوقت, والقراءة, وأداء الفروض الدينية, وقد وفيت بوعدي له وحصلت بعد عناء على شهادة في الكمبيوتر وعملت بعمل جيد وأصبحت لي شقه جيده وسيارة, وجددت رجائي إليه ان يتزوج قبل ان يفوته القطار .. وأشركت إخوتي في الإلحاح عليه بذلك بعد أن شعرنا بأنه قد زهد الزواج بعد قصته الأولي التي حرم من استكمالها بسبب الظروف القاسية ,ولكم كانت سعادتي حين تلقيت منه ذات يوم رسالة يقول لي فيها انه التقى بسيدة مطلقة في الخامسة والثلاثين من العمر ولها طفلة عمرها سبع سنوات, وشعر لأول مره منذ سنوات طويلة بمشاعره تتحرك تجاهها وانه يفكر في أن يتقدم إليها بعد أن استشعر ميلها إليه , واتصلت به هاتفيا وزغردت في الهاتف تعبيرا عن فرحي وسعادتي بذلك وأقسمت عليه برحمة أبينا وأمنا ألا يدع هذه الفرصة تفلت منه , وألا يحرم نفسه من السعادة التي يستحقها وأكدت له إنني سأرجع إلى مصر لحضور زفافه بعد غياب نحو عشر سنوات , وسأرسل إليه مبلغا كبيرا لإعداد الشقة للزواج وتجديدها وشراء كل ما يلزمه, وأرسلت إليه رغم رفضه, ومحاولته الاعتذار لي مبلغا مناسبا وقدم له أخي الأوسط هديه ماليه مناسبة قبلها منه بعد إلحاح.
وتم عقد القران في غيابي ووصف لي أخي الأوسط فرحته وفرحه أختينا بسعادة أخينا الأكبر وخجله خلال عقد القران حتى فاض قلبي له بالحب والوفاء وتمنيت لو كنت موجودا معه لأشاركه فرحته.. وسئل أخي عن موعد الزفاف فأجاب بأنه سيتم حين استطيع أنا العودة لمصر والخروج منها دون مشاكل مع التجنيد , وكانت قد بقيت ثلاثة أشهر لا غير على السن التي استطيع فيها تسوية موقفي التجنيدي والسفر لأمريكا دون مشاكل , فتأجل الزفاف حتى ذلك الحين ورحت أنا أعد الأيام علي الموعد المنتظر واستعد له .. واشتريت بدلة سهره سوداء لأخي الأكبر.. ليرتديها يوم الزفاف وأبلغته بذلك واشتريت لنفسي بدلة مماثله لي وثالثه لأخي الأوسط بناء علي طلبه .. وحجزت تذكرة السفر بعد 10 أيام فإذا بأخي الأوسط يتصل بي هاتفيا ويقول لي بصوت غريب إن زفاف أخي قد تم تقديم موعده ويرجوني الحضور على الفور لإدراكه ولو تركت كل شيء.
ولم استرح لنبره
صوت أخي في هذه المكالمة , وسألته عما إذا كان قد حدث شيء فأجاب بالنفي وألح علي
بالحضور لكي لا يفوتني حضور الزفاف ومشاركة أخي مناسبته. ووضعت السماعة وأعددت
حقيبتي وأبلغت العمل باضطراري للسفر وركبت الطائرة عائدا لمصر.
وفي المطار استقبلني أخي الأوسط واجما , فتأكدت ظنوني وسألته عما حدث, فإذا به يقول لي ان شقيقنا الأكبر قد فاجأه وهو يستعد لزفافه نزيف في المخ ونقل للمستشفي وهو الآن في غيبوبة منذ يومين , وقد رأى من واجبه أن يدعوني للحضور لأراه حتى لا ألومه فيما بعد , وانفجرت باكيا في سيارة الأجرة , التي تحملنا من المطار وهرولنا إلى المستشفى وأطللت عليه وهو غائب عن الوعي في فراشه وإلى جواره زوجته التي لم يدخل بها بعد وشقيقتانا وزوجاهما .. وانفجرت مره ثانية في البكاء وأنا اقبل وجه أخي ورأسه ويديه وقدميه وشقيقتاي تبكيان , وتجذبانني إلى خارج الحجرة وأنا أقاومهما وأقول له اشتريت لك بدلة الفرح يا أخي وأريد أن أراك ترتديها.
وبعد جهد جهيد استسلمت لإخوتي وخرجت إلى قاعه
الانتظار, ورفضت العودة للبيت لأستريح من عناء السفر وأصررت على قضاء الليل في
القاعة , وفي الفجر انتهى كل شيء , ورحل أخي الحنون المضحي الصبور المعطاء عن
الحياة بغير أن يسعد نفسه ويتزوج وينجب طفلا كما كان يتمني طوال عمره وقبل أن يحقق
لنفسه حلم السعادة الذي تمناه طويلا بعد أن حرم من قبل من تحقيق حلمه في أن يصبح
مهندسا, وضحى به ليعول إخوته ويحميهم من الضياع, مات ولما يبلغ بعد السابعة
والأربعين من عمره , وكأنما قد أنهكه الكفاح والحرمان, وطوي صفحه عمره القصير.
إنني اكتب إليك هذه الرسالة الآن من مسكننا القديم بالعباسية .. بعد 10أيام من رحيل أخي عن هذه الدنيا الظالمة , واكتب لك وأنا أراه في كل مكان من الشقة .. واراه في جلسته على الكنبة البلدية التي احتفظ بها من الأثاث القديم, وكان يمضي وقت الأصيل جالسا فوقها خاصة في السنوات الصعبة يسبح ربه على مسبحته ويفكر كيف يطعم هؤلاء الأيتام وكيف يكسوهم وكيف يدبر نفقات تعليمهم, فإذا طلب منه احدنا طلبا ابتسم في وجهه وأشار صامتا إلى عينه اليمني ثم إلى عينه اليسرى إشارة إلى أن الطلب مجاب إن شاء الله .. ولعله يكون في ذلك الوقت خاوي الوفاض تماما , لكنه سيقترض من زملائه إلى أن يقبض مرتبه.
إنني اشعر بحسره شديدة .. واشعر بالذنب تجاهه لأنني قد كلفته
دائما فوق طاقته .. وأحزنته بهجرتي وقطعي لدراسة الهندسة برغم سعادته وتفاخره
بحصولي على الشهادة العالية من أمريكا , وأتمنى لو رجعت الأيام لكي أواصل دراسة
الهندسة من أجله وأحقق له أمله في, ولا اتركه لوحدته وعزوبيته حتى تلك السن
المتأخرة .. وانظر إلى بدله السهرة السوداء المعلقة في غرفته وابكي واستغفر الله
العظيم وأنا أتساءل عن الحكمة في أن يعيش إنسان طيب ومضح مثله في حرمان وعناء
وكفاح معظم سنوات عمره حتى إذا ابتسمت له الأيام أخيرا ووعدته بالسعادة .. تنطوي
صفحته علي هذا النحو فجاه , إنني حزين من أجله يا سيدي وحزين من اجل نفسي لأني أتجرع
برحيله اليتم مرتين , ولا ادري ماذا افعل لكي أودي له حقه علي وارد له الجميل,
وأتخلص من إحساسي بالذنب تجاهه .. فهل لديك ما تشير به علي أو تنصحني به.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
هناك أشخاص
يضيفون إلى الحياة الكثير ولا يأخذون منها للأسف إلا القليل .. ويضئ وجودهم حياه
من حولهم , ويخصم غيابهم الأبدي من جمال الحياة وخيريتها , ولقد كان شقيقك الأكبر
واحدا من هذا النوع من البشر الذين وصفهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه في
معرض حديثه عن الأبرار والصالحين بقوله :
هم قوم لا
يشقي بهم جليسهم
نعم لا يشقي
بهم جليسهم , إنما يسعد , ويشعر بالثراء الروحي الذي تفيض به جوانحهم .. ويتمني
المرء لو استطاع أن يحذو حذوهم وينهج نهجهم في الحياة .. لتزداد خيريتها وتنحسر
مساحه الشر والقبح والأنانية فيها .. ذلك إن أهم ما يتسم به هؤلاء الأبرار هو
السماحة والعفة والإيثار وإنكار الذات والعطاء واحترام مشاعر الغير ورعاية حرماتهم
.. الم تر كيف كان شقيقك المضحي الصبور يتقبل كل مطالبكم ولو ناء بها كاهله دون أن
يفقد صبره معكم أو يشعر أحدكم بثقل عبئه أو يمتن عليه بما يقدمه له؟ أو لم تر كيف
كانت تعني الإشارة الصامتة إلى عينيه حين يطلب أحدكم منه مطلبا من مطالب الحياة
خلال السنوات الصعبة , انه علي الرحب والسعه سوف يلبي له مطلبه ولو أرهق نفسه بذلك
أو اضطر للاستدانة للوفاء به, وبغير ان يضيق صدره أو ينطق لسانه بما يزفر به غيره
حين ينوء بمطالب الأبناء وتكاليف الحياة ؟
لقد كان يرحمه
الله أبا بالفطرة والعاطفة .. والمسئولية أكثر منه أخا أو شقيقا لكم , وبعض
الأشخاص لهم طبيعة أبويه تغلب عليهم وتتحكم فيهم , فيتصرفون مع أشقائهم الضعفاء
كما يفعل الأب الرحيم مع أبنائه , ولقد يفسر ذلك قول أبيكم عنه انه يبدو كما لو
كان قد ولد رجلا منذ طفولته وليس طفلا .. فكأنما كان يعد نفسه منذ الصغر لتحمل
المسئولية عن إخوته .. أو لكأنما كان يدرك بطريقه غامضة انه مرشح لان يقود سفينة
الأسرة بعد أبيه إلى شاطئ الأمان .. ولقد تحمل أمانه المسئولية بشرف وقاد السفينة
باقتدار , وقدم بتضحياته وصبره وحكمته المثل والعزاء, فحتى عبث الصغار كان يتسامح
معه بفهم وحكمه وصبر ويتجاوز عنه , ولا يري في الظروف القاسية المحيطة بالأسرة
مبررا كافيا لكيلا يكون الأطفال أطفالا لهم نزقهم وأخطاؤهم ولا لكيلا يكون المراهقون
مراهقين لهم عثراتهم وحماقاتهم وكأنهم ليسوا بشرا كالبشر .. او كان الحرمان سبب
كاف لتغيير الطبيعة البشرية وتطويعها لما يتوافق مع الظروف.
لقد كان شقيقك
الأكبر قمة في الحكمة والتراحم, وهو يتفهم طبيعة الصغار ويتجاوز عن هناتهم ويدعو
أمه للتجاوز عنها..
تذكرت وأنا
أقرأ عن ذلك في رسالتك ما كتبه الروائي الروسي العظيم دستويفسكي في روايته
المساكين علي لسان مقار ديوفشكين حين لاحظ أن أطفال جاره المعدم الذي يقيم مع
أبنائه الثلاثة وزوجته في احدي غرف البيت , لا يسمع لهم صوت ولا ضجيج كضجيج
الأطفال , وانه كلما عبر بباب غرفتهم المفتوح رأى الأطفال جالسين في صمت حزين
وكأنهم يفكرون في أمور مهمة فكتب في أوراقه:
لأشد ما أكره
أن يصمت الأطفال وان يستغرقوا في التفكير فما الطفولة إلا لعب وانطلاق , وانه لمن
المؤلم حقا أن يصاب الأطفال بالكآبة وان يكفوا عن نزقهم.. وأخطائهم , ويتعقلوا!
نعم .. من
المؤلم حقا أن يصمت الأطفال وان يكفوا عن الضجيج وان يستغرقوا في التفكير ويتصرفوا
كالكبار بدعوي تقدير الظروف القاسية المحيطة .. فأي فهم راق للطبيعة البشرية ..
كان شقيقكم الأكبر هذا يتعامل معكم به وأي حكمه وأي صبر؟
إن أمثاله ممن
يتحملون مسئوليات إخوتهم قد يضيقون بأي هفوة لأخوتهم بدعوي أن الظروف لا تسمح بترف
الأخطاء والهنات, ولقد يقسون عليهم من اجل ذلك ويجارون بالشكوى من الصغار الذين لا يقدرون التضحيات المقدمة لهم.. وكأنما يطالبونهم
بان يخالفوا فطرتهم التي فطرها عليهم الله سبحانه وتعالي مراعاة لظروفهم القاسية
.. كما أن البعض قد يرون إن العطاء لمن يستحقونه لا عائد له في الدنيا , والحق هو
إن عائده مؤكد في الدنيا والآخرة , وانه ليس هناك عطاء يذهب سدى حتى ولو بدا لنا
غير ذلك أو حتى لو تشكينا من الجحود والإنكار.وأي عائد لعطاء شقيقك لكم أعظم من
هذا الحب العميق والاحترام الكبير والوفاء الجميل الذي حملتموه دائما له, بل وأي
عائد اجل من حزنكم الصادق عليه واساكم الشديد لرحيله عن الحياة قبل أن يسعد فيها
بحياته مع من اختارها لصحبه السنين..
لقد كان الأديب
البرازيلي باولو كويللو يقول:
كلما ازداد
استعدادك للعطاء ازداد بالضرورة ما تحصل عليه.
ولقد غنم
شقيقك بعطائه لكم راحة القلب والضمير ورضا أمه عنه , ناهيك عن محبتكم له واعتزازكم
به وعرفانكم له في حياته.. وحزنكم النبيل عليه بعد رحيله.. فأما جائزته الكبرى فهي
وفي السماء رزقكم وما توعدون إن شاء الله.
انك تسألني
كيف تؤدي إليه بعض حقه عليك وماذا تفعل لكي تتخلص من إحساسك بالذنب تجاهه , واني
لأنصحك بإكرام صاحبته التي لم يمهله العمر لكي يبني بها وبعدم منازعتها في أي حق
من حقوقها .. بل وبالسخاء معها في ذلك إكراما لمن اختارها لرفقه الحياة ورعاية
لظروفها المؤلمة , وحبذا لو استطعت أن تجري علي روح شقيقك الراحل صدقه جاريه في
حدود قدرتك وإمكاناتك, وحبذا أيضا لو اقتديت به في تدينه وتراحمه وإيثاره لغيره
وسماحته وصبره, وسرت علي نهجه في الحياة..
مع الدعاء الدائم له , والاستغفار من اجله , وإتباع مثله العليا وقيمه الدينية والأخلاقية , وفي ذلك بعض الوفاء.. يرحمه الله .
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر