ابتسامة الهزيمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999
ليس يعيب الإنسان أن يرفضه شريك حياته أو أن يخون عهد الوفاء معه لأن الخيانة في النهاية هي عار الخائن وليس المخون، وإنما يعيبه حقاً أن يتمسك هو بمن رفضه وأن يمتهن نفسه وكرامته في استجداء استمراره معه بعد أن أكدت المؤشرات الواضحة من قبل أن تحت الرماد ناراً لا تخفي على فطنة أحد.عبد الوهاب مطاوع
ولجأت إلى الأسرة فنفوا ذلك واتهموا والدة زوجتي
بالاندفاع والتهور وواجهت هذا الزميل نفسه بما قالته فنفاه بشدة وتساءل عما يدعوه
للزواج مرة أخرى وله زوجة جميلة وثلاثة أبناء، وقضيت بقية أيام الإجازة أحاول
إصلاح الأحوال بيني وبين زوجتي بلا جدوى .. واضطررت للعودة إلى عملي بغير الإقدام
على الطلاق حفاظاً على كيان الأسرة.
ومن غربتي رحت أتصل بزوجتي تليفونياً فتخبرني في
كل مرة بأنها متمسكة بطلب الطلاق إلى النهاية.. وفشلت كل جهودي لإقناعها بالعدول
عن هذا المطلب فاضطررت إلى العودة بعد ستة أشهر في محاولة أخيرة لإنقاذ الأسرة
فاستمرت زوجتي في معاملتي أسوأ معاملة وتمسكت بالنوم في غرفة مستقلة، وحين أبلغتها
بأنني لا أمانع حتى في استمرار الحياة بيننا على هذا النحو لكي تكون أما للأطفال
فقط راحت تهددني بدس السم لي أو قتلي خلال نومي إن لم أستجب لطلبها بالطلاق، ولم
تكتف بذلك بل بدأت بالفعل في اتخاذ إجراءات طلب الطلاق عن طريق المحكمة.. وفوجئت
بأحد المحامين يزورني ويحاول إقناعي بالطلاق ودياً بعيداً عن إجراءات المحاكم،
قائلاً لي إنني رجل مهندس ومثقف ولا يليق بي أن أتمسك برفض طلاق زوجتي مادامت تصر
عليه ولا أمل في عدولها عنه..
ولم أستطع الصمود لبذاءات زوجتي وشتائمها أكثر من
ذلك فوافقت على الطلاق وذهبت معها ومعي شقيقي إلى المأذون في موكب حزين وشعرت بأن
قطعة من جسمي تنتزع منه وأنا أردد وراءه العبارات الكريهة..
وكان ردي عليها أنني سمحت للكثيرين بزيارتي فلماذا لم يفعل أحد غيره ما فعل.. والأنكى من ذلك أنه قام بتأجير شقة قريبة من مسكني بنفس الحي لمن أصبحت زوجته من بعدي وذلك لكي أموت كمدا وغيظا.. فهل من العدل أن يعاقب القانون على قتل مثل هذا الرجل! لقد رويت لك قصتي لكي تحذر الآخرين من هؤلاء الذي يتمسحون بمسوح الصداقة ويتسللون إلى البيوت الهادئة ويهدمونها ويشردون أطفالها الصغار ويحرمونهم من أماتهم وأمانهم.. ولكي تنصحني بما أفعل لكي أستطيع احتمال التجربة المؤلمة واجتيازها؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
وماذا يملك الإنسان أن يفعل إذا شاءت له أقداره أن
يمنى بهزيمة شخصية مماثلة سوى أن يتقبل ما حدث كما يتقبل حقائق الحياة الأخرى..
ويسلم بأنه ليس في الإمكان محوه أو تغييره.. لكنه يستطيع فقط –إذا أراد- أن يعين
نفسه على اجتياز هذه المحنة بأقل الخسائر النفسية والصحية، وأن يؤمن بأنه إذا كان
قد انهزم في إحدى الجولات فإنه لم يفقد كل فرصة في الحياة ومازال قادراً على أن
يبدأ من جديد مستفيداً بدروس المحنة وخبرتها الأليمة في تفادي أشواك الطريق.
ولا يملك المرء في مثل هذه الظروف سوى أن يفعل
ذلك.. فالتسليم بما حدث والإيمان بأنه ليس سوى عثرة من عثرات الطريق يستطيع النهوض
منها ومواصلة السير إلى الأمام.. هو الخطوة الأولى في التعامل السليم مع
الانكسارات والهزائم التي قد يتعرض لها الإنسان خلال رحلة الحياة.. أما التجمد
أمام ما حدث.. والاستغراق النفسي والوجداني فيه إلى ما لا نهاية والانشغال الكلي
بما كان عما ينبغي له أن يكون في الحاضر والمستقبل القريب فلا طائل وراءه سوى
مضاعفة الخسائر.. وضياع فرص التعويض، والعيش في إسار المحنة بدلاً من تخطيها..
والتطلع لما بعدها.
والحق أننا نحتاج إلى أن ندرب أنفسنا على تقبل الهزيمة
بروح واقعية كما تعلمنا من قبل أن نزهو بالانتصارات ونسعد بها.. لأن الحياة نجاحات
وإخفاقات، والمهم هو كيف نتعلم من الفشل كما نعمنا من قبل بالنجاح، وقديماً قال
شكسبير: إذا ابتسم المهزوم.. فقد المنتصر بعض لذة النصر! وابتسامة المهزوم هنا لا
تعني السعادة بالهزيمة أو الابتهاج له، وإنما تعني ألا تنكسر إرادة الإنسان أمامها
وأن يؤمن بقدرته على الصمود لها.. وتعويض بعض ما خسره في سياقها.
وفي قصتك ليس يعيب الإنسان أن يرفضه شريك حياته أو
أن يخون عهد الوفاء معه لأن الخيانة في النهاية هي عار الخائن وليس المخون، وإنما
يعيبه حقاً أن يتمسك هو بمن رفضته وأن يمتهن نفسه وكرامته في استجداء استمرارها
معه بعد أن أكدت المؤشرات الواضحة من قبل أن تحت الرماد ناراً لا تخفي على فطنة
أحد. وأنه من الأكرم لمن كان في مثل ظروفك أن يقبل بما ليس منه بد، ويطلق سراح من
لم تحفظ عهده، ولم يردعها عن الانصياع لأهوائها ثلاثة أطفال صغار كأطفالك.
فإذا كانت ثمة مسئولية عما حدث فالمسئولية مشتركة
بين أطراف الثالوث الشهير في الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر وهو ثالوث الزوج
والزوجة والصديق وإذا كانت زوجة ذلك الرجل تعتبرك المسئول الوحيد عما حدث لأنك قد فتحت
بابك لزوجها وتقبلت زياراته المكثفة لك ولزوجتك بدون زوجته فإن هذه المسئولية رغم
أهميتها ليست في النهاية المسئولية الوحيدة.. حتى وإن كانت قد ساهمت في تصعيد
الأحداث بالفعل، لأن الرجل زميل لزوجتك في العمل.. ولم يكن كلاهما ليعجز عن
التواصل مع الآخر إذا أغلق في وجهيهما باب اللقاء المشترك معك وإن كان ذلك لا يغير
من الحقيقة العامة وهي أن التحفظ في مثل هذه العلاقة هو الأولى بالإتباع بالفعل
سداً لأبواب الفتنة والإغراءات والمشاكل.
لكني بالرغم من ذلك لا أفهم أن ينصب حقدك على هذا
الرجل وحده حتى لتفكر في الانتقام منه بدعوى "إراحة المجتمع" من
أمثاله.. وهو بالرغم من إدانته أخلاقياً في هذه القصة المؤسفة لم يكن الطرف الوحيد
فيها بل ربما لم يكن أيضاً الطرف الفاعل المؤثر في القصة كلها، إذ كانت هناك كذلك
زوجتك السابقة ومسئوليتها لا تقل خطراً عن مسئوليته إن لم تزد عليها.
لأنها لو كانت قد حفظت لك عهدك أو نفرت من فكرة
الخيانة والارتباط بغير زوجها وتعريض استقرار أطفالها للخطر لما نجح هذا الرجل
مهما بلغ تأثيره في فك عرى العلاقة الزوجية بينك وبينها. وعلى أية حال فإن فكرة
الانتقام منه لا معنى لها.. ولا طائل من ورائها سوى مضاعفة الخسائر الإنسانية
والاجتماعية بالنسبة لك ولأطفالك.. ولقد تزوج كل منهما من الآخر، وانطوت بذلك صفحة
العلاقة غير المشروعة بينهما وبدأت صفحة أخرى لا يحق لك أو لغيرك الاعتراض عليها..
فأطو أنت أيضاً هذه الصفحة المحزنة من حياتك وتطلع لبدء صفحة جديدة خالية من أخطاء
الماضي وآلامه..
واعلم أن الانشغال الشديد بأمر من خانت عهدك ومن
تزوجها حتى ولو بالكراهية لهما والتفكير في الانتقام منهما أو من أحدهما، ليس من
علامات البرء من هذه المحنة.. لأنه حتى الكراهية الشديدة لمن آذونا انشغال وجداني
بأمرهم لا يستحقونه منا، ولا يستحقون أن نبدد فيه طاقتنا النفسية.. وإنما تلوح
بشائر الشفاء في الأفق حقاً حين نبدأ في تجاهل أمر من أساءوا إلينا..
"واعتبارهم" من غير الأحياء..ومن غير الأموات بالنسبة إلينا على حد
تعبير الفيلسوف الألماني نيتشه، فيكون ذلك علامة إيجابية على اجتياز المحنة..
والتهيؤ لمواصلة الطريق.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر