المصيدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
لم أكتب إليك من قبل لاعتقادي أنني أستطيع حل مشكلتي , لكني عجزت تماما عن التصرف فيها وأريد أن أستعين برأيك في مواجهتها .
فأنا زوجة في الثلاثين من عمري .. وأم لثلاثة أطفال من أسرة محترمة وميسورة وقد تزوجت منذ سنوات بالطريقة التقليدية فبعد تخرجي في الجامعة وعملي بوظيفة محترمة بمرتب كبير، تقدم لي مهندس قريب لزميل لي في العمل ويكبرني بعشر سنوات وقد رأيته شابا مقبولا من كل النواحي فرحبت به .
وتم الزواج سريعا خلال عدة شهور وبعد الزواج بفترة قصيرة أدركت أنني قد وقعت في المصيدة التي لا أعرف كيف أخرج منها .
فزوجي لا يتحمل مسئولية بيت ولا يعرف كيف يتحملها وشعاره في الحياة أن يأخذ ولا يعطي وإذا أعطى مرغما فأقل القليل .
وفي بداية حياتي الزوجية تعاملت معه بحب واحترام وكنت أنفق مرتبي كله على البيت لأحافظ على مستوانا العائلي ومظهرنا الاجتماعي لكني وجدت زوجي بعد ذلك يعتمد علي اعتمادا كاملا في كل شئ في حياتنا الزوجية إبتداء من نفقات البيت التي لا يدفع منها سوى مبلغ ضئيل جدا لا يصمد لأكثر من أسبوع إلى كل شئ من شئون الحياة والأسرة خاصة بعد أن جاء الأطفال واحدا وراء الآخر, فوجدت نفسي بعد قليل الرجل والمرأة والأم والزوجة التي تتحمل كافة أعباء الأسرة والأطفال من جميع النواحي.
فأنا أدفع فاتورة التليفون والكهرباء ورسوم المدارس الخاصة المرتفعة .. نفقات الطعام والشراب وإذا صادفت أطفالي أية مشكلة دراسية في المدرسة فأنا التي تذهب لحلها .. حتى شهادات الأطفال المدرسية لا يكلف زوجي نفسه عناء توقيعها فأوقعها بإسمه بدلا منه .. فهو لا يحب أن "يرهق" نفسه بأي عمل ولو بسيط من أجلنا .. وليته بعد ذلك يقدر لي ما أفعل وإنما على العكس لم أسمع منه كلمة شكر واحدة على ما فعلت وما أفعل منذ تزوجنا ولا ينالني منه إلا محاولة جرح مشاعري بمناسبة وبدون مناسبة .. فزوجي يا سيدي مشغول بحياة أخرى رسمها لنفسه ويعيش فيها في خياله بعيدا عن أية مسئولية تجاه بيته وأولاده , فهو يعتقد أنه لم يخلق للوظيقة ويعتقد أنه رجل أعمل ناجح موعود بالمجد والثراء لهذا ترك وظيفته من أجل مشروع خاص فشل للأسف وخسر وظيفته وباع سيارته , ولم يكتف بذلك وإنما شارك أصدقاءه في مشروعات صغيرة أخرى فشلت أيضا لسوء حظه , وكان ذلك كله على حساب بيتي وأولادي .. حيث أصبح الاعتماد علي كاملا ونهائيا في إعالة الأسرة والأطفال وتحمل تكاليف الحياة ومازال يقوم بمشروعاته والآن يعمل في مشروع صغير خارج القاهرة ولا يزورنا إلا بالمصادفة كل عشرين يوما ولا يعطيني جنيها واحدا لمصروفات الأولاد .
ولقد فكرت طويلا في المشكلة التي تهدد مستقبل أطفالي ولم أجد لها حلا سوى أن يرجع إلى وظيفته مرة أخرى أو إلى أي وظيفة مناسبة لمهندس كهرباء له خبرة عشرين عاما , أليس هناك من قانون إنساني يسمح بعودته لوظيفته التي استقال منها جريا وراء الأحلام والأوهام .. ؟
أو ليس لدى أحد من قرائك مكان ووظيفة لزوجي إنقاذا لبيتي من الخراب ؟
فلقد ضاقت بي السبل وأصبحت أشعر بأن مسئوليتي الكاملة عن البيت والأولاد طوق يلتفت حول عنقي ويشدد الخناق عليه .. فبماذا تنصحني أن أفعل هل أطلب الطلاق منه أم أواصل التحمل من أجل أولادي وإذا طلبت الطلاق فماذا يكون مصير أولادي ..؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـكـاتــبــــة هــــذه الـرســــالة أقــول:
فات أوان التفكير في الخروج من "المصيدة" الآن يا سيدتي بعد مجئ ثلاثة أطفال أبرياء ولم يعد يجدي إلا البحث عن طرق التكيف مع الحياة داخلها وتخفيف أضرارها إلى الحد الأدنى إكراما لأطفالك ورعاية لحقهم عليك .. وربما تجئ "الجائزة" بعد ذلك في تغير شخصية زوجك إلى الأفضل بعض الشئ .. فتتحول المصيدة المحكمة الإغلاق إلى سجن مفتوح يرفض نزيله مغادرته باختياره تفضيلا للحياة داخله عنها خارجه وأقول "بعض الشئ" عن قصد .. لأن الشخصية الاعتمادية الأنانية التي اعتادت الأخذ دون العطاء قد تتحسن بعض الشئ مع مطارق الحياة فوق رأس صاحبها لكنها لا تتغير تغيرا جذريا من النقيض إلى النقيض مهما فعلنا .. فالأنانية داء متأصل في نفوس المصابين بها وعلاجها يعتبر ناجحا حين يتوصل إلى تخفيف الأعراض والوصول بالمرض إلى ما يسميه الأطباء "حالة الاستقرار" حيث لا تتفاقم الأعراض ولا تزداد سوءا .
أما أن تتحول الشخصية الأنانية إلى شخصية مضحية تستشعر مسئولياتها تجاه الآخرين وتعطي لهم أكثر مما تأخذ منهم، فهذا حلم لا يتحقق إلا نادرا ولا يحدث إلا عبر تجارب أليمة ومواقف مصيرية تحفر في حياة من يواجهها آثارها العميقة.
لهذا دعينا لا نتعلق بالآمال البعيدة ونكتفي بالأمل في تخفيف الأعراض وتسكين الآلام .
وفي هذا المجال فلست أعرف إذا كانت الوظيفة هي الحل الملائم حقا لمشكلة زوجك أم لا لأنك أنت التي ترينها كذلك وليس هو ولكي ينجح هذا الحل ويؤتي ثماره لابد أن ينبع من ارادة زوجك شخصيا وأن يقتنع بأنه في الحقيقة لم يخلق للأعمال الحرة والمشروعات التي تحتاج من صاحبها إلى قدرات خاصة وإنما للوظيفة التي نبذها جريا وراء أحلامه فإذا اقتنع بذلك حقا اقتناعا تاما .. أصبحت الوظيفة حلا ملائما لمشكلته.
أما مشكلتك أنت معه فلن تكفي الوظيفة لحلها للأسف إذ يتطلب ذلك أساسا أن يقتنع زوجك بأنه المسئول الأول عن أسرته وبأن "الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته" كما جاء في الحديث الشريف .. وأن الزوجة إذا كانت تساعد زوجها في تكاليف حياة الأسرة والأبناء فإنها لا تفعل ذلك تكليفا عليها وإنما فضلا وكرما وإيثارا لمصلحة الأسرة على مصلحتها الشخصية .. أما أن يدعم لها الزوج مسئولية الأسرة والأبناء المادية والأدبية وينصرف هو إلى الجري وراء أحلامه فلا معني له إلا أن يتنازل بإختياره لزوجته عن عرشه كرب للأسرة وعن قوامته عليها وعلى أولاده وفارق كبير بين أن يكون الزوج غير قادر بموارده المحدودة عن الوفاء بكافة نفقات أسرته أو يصادفه سوء الحظ في بعض مراحل حياته فيعجز عن القيام بمسئوليته عنها وتنهض زوجته لتحملها عنه تعاونا وتكافلا وبرا به وبأولادها إلى أن تتحسن الأحوال .. فارق كبير بين ذلك وبين أن يتخلى الزوج تهاونا واستسهالا عن مسئوليته المادية أو معظمهما لزوجته بسبب ضعف احساسه بالمسئولية ولأنانيته وسوء تدبيره لأموره .
نعم فارق كبير وشاسع بين الحالتين "فالأولى" حالة ضرورة لا تحس الزوجة فيها بأية غضاضة حين تسهم بما تملكه في تحمل بعض أعباء الحياة أو كلها ولا ينقصن اعتبار زوجها لديها وهي تفعل ذلك بل وربنا بالغت في الحرص على كرامته ومراعاة مشاعره اشفاقا عليه مما يحسه هو من احساس مؤلم بالعجز عن القيام بكل واجباته .
أما في "الثانية" فخير ما يعبر عن مشاعر الزوجة تجاه زوجها فيها هو هذه العبارة التي جاءت على لسان الأم في مسرحية "كلهم أولادي" للكاتب الأمريكي أرثر ميللر حين قالت لابنها محذرة من نفس هذه المصيدة .
حين تنفق الزوجة على زوجها فأنها تملكه ولا يمكن أن يملك الإنسان أحدا دون أن يحس تجاهه ببعض الإحتقار !
مع حرصي الشديد على عدم جرح مشاعر زوجك .. ومع استعدادي إذا كتبت إلي بعد اقتناعه التام بإسم الجهة التي كان يعمل بها قبل الإستقالة لاستطلاع امكانية عودته إليها إذا وافق المسئولون عنها ومع وعدي أيضا لك , بإبلاغك بأيه استجابة قد أتلقاها من قراء بريد الجمعة للاسهام في حل مشكلة العمل بالنسبة له إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مايو 1994
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر