الألقاب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

الألقاب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

أنا سيدة أبلغ من العمر 34 سنة وانتمي إلى أسرة مكونة من ستة اخوة وأخوات وأبي وأمي ومنذ وعيت الحياة وأنا وإخوتي نحس إحساسا راسخا بأننا أيتام رغم وجود أبوينا بيننا , فقد عشنا الذل والقهر واللامبالاة من جانبيهما منذ طفولتنا بلا أي مبرر , وقد كان من هوايتهما الأثيرة أن يطلقا علينا جميعا ألقابا ساخرة ومخجلة ينادوننا بها علنا أمام الجيران فلا تلبث أن تنتشر وينادينا الآخرون بها مع ما فيها من جرح لمشاعرنا .. فأخي الأكبر أطلقا عليه منذ الصغر لقب "الجدي" والثاني "النعجة" والثالث "الخروف" .. أما البنات فأختي الكبرى كانت "الخشبة" لنحافتها أما أنا فقد كنت بلا فخر "الطشت" لأني رسبت عاما في المرحلة الابتدائية بسبب اصابتي بحمى التيفود التي لم تشفع لي عندهما في تبرير رسوبي , أما اختي الصغرى فاسمها "السل" لأنها كانت قصيرة ونحيفة وضعيفة كمريض السل.

وفيما عدا ذلك فلم يكن لأبينا أي دور في حياتنا إلا ما يمثله لنا من الرعب والخوف خلال وجوده في البيت , أو في غيابه حين تخيفنا به أمي , وخارج هذا الاطار فلا دور ولا قدوة ولا حنان من الأم ولا مسئولية من جانب الأب فهو موظف لا يهمه من الدنيا إلا تأمين طعامه أما نحن فلا حق لنا في شئ .. فإن كان لأبوينا فضل علينا ففي أنهما أدخلانا المدارس وأقول أدخلانا وليس علمانا لأن دورهما مع كل منا كان ينتهي بمجرد إلحاقه بالمدرسة وعلينا نحن بعد ذلك أن نستعير الكتب القديمة من زملائنا وجيراننا ونذهب إلى المدرسة بأي وسيلة .. وندبر أمورنا ونتوجه إلى المسئولين بالمدرسة نرجوهم أن يعفونا من الرسوم الدراسية مهما كانت بسيطة , ورغم ذلك فلقد مضت بنا الأيام وتعاونا فيما بيننا على تحمل أعباء الحياة فواصلنا الدراسة وتخرج منا من تخرج .. وتزوجت أختي الكبرى فاشترط أبي على العريس ألا يساهم في جهازها بشئ لأنه يكفيه أنها تتعلم ! وجاء دوري للزواج بعد أن تخرجت وعملت مدرسة فخرجت أختي الصغيرة للعمل خلال دراستها حتى تجهزني وفعلا قامت بشراء ما استطاعت شراءه لي , وتسألني وأين إخوتي الرجال .. فأقول لك يعملون أعمالا مؤقتة وكلما عمل أحدهم أحضر بأجره أو بمعظمه طعاما لأبيه فمرتب أبي وأجر من يعمل من أولاده للطعام فقط .. ومع ذلك فقد تزوجت وعوضني الله عن معاناتي برجل فاضل , والآن يا سيدي جاء دوري لكي أرد لأختي التي جهزتني جميلها الذي طوقت به عنقي فقد تقدم لها شاب من أسرة طيبة وبسيطة وللأسف فقد استغنى عنها صاحب محل السلع المعمرة الذي كانت تعمل عنده بسبب العمالة الزائدة .. وهي الآن جليسة البيت وخطيبها يلح عليها في شراء بعض الأثاث الضروري للزواج , وأنا مرتبي مائة جنيه أعطيها نصفه كل شهر سرا لتدفعه كأقساط للأثاث مع أن حالة زوجي الاقتصادية سيئة , لهذا أسألك أن توفر لي عملا بعد الظهر يعينني على أداء واجبي تجاه أختي وهل تستطيع إذا لم أثقل عليك أن تجد لها هي أيضا عملا مناسبا يساعدها على تحقيق حلم حياتها ويعوضها ما عانته معنا من حرمان .

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

ولكـــاتــبــة هـــذه الرســـالــــة أقـــول:

 

كثير من رسائل القراء والقارئات تذكرني حين يروون عن طفولتهم بما كتبه الأديب الروسي العظيم أنطون تشيكوف في سيرته الذاتيه حين قال : لم تكن في طفولتي .. طفولة !

وحين قال أيضا : كانت طفولتي خالية من العطف حتى أني إلى اليوم مازلت أنظر إلى العطف كأنه شئ غير مألوف بالنسبة لي ولم تكن لي خبرة به من قبل.

واغتيال الطفولة باللامبالاة والنكوص عن أداء حقوقها من جانب الآباء والأمهات هو أكبر جريمة يرتكبها أب أو أم في حق أبنائهما ولقد رتب رسولنا الكريم للأبناء على الآباء من الحقوق ما لو التزموا بأداء بعضه تجاههم لما حفلت طفولة الكثيرين بمثل هذه الذكريات المريرة التي تطبع شخصياتهم بآثارها السلبية حتى النهاية .. وتفقدهم بعض قدرتهم على الاستماع بالحياة والابتهاج لها في الكبر.

فحتى الأسماء نهى الرسول الكريم الآباء عن أن يتخيروا منها لأبنائهم الأسماء المنفرة أو القبيحة أو الخالية من الجمال ومعاني الاستبشار.

وارتقاء من هذه المسئولية البسيطة تتصاعد الحقوق التي تبدأ بحسن اختيار أمهاتهم إلى التدليل والمداعبة في الصغر إلى التربية والرعاية والتعليم والإرشاد والتوجيه إلى حمايتهم من كل ما قد يتعرضون له من خطر إلى مصاحبتهم ومصادقتهم في سن الشباب إلى تحمل المسئولية المادية والاجتماعية الكاملة عنهم .. حتى ليؤمر الأب القادر بأن يزوج ابنه الشاب بماله ويحاسب عن ذلك إذا نكص عنه .. ويقع عليه أمام ربه إثم ما يرتكبه ابنه الشاب إذا لم يعنه على الزواج بماله ضنا به عليه , فإذا كان هذا  شأن الابن القادر على الكسب مع أبيه فما بالك بمسئوليته عن زواج بناته وهي مسئولية كاملة شاملة حتى لو كانت تعمل وتكسب رزقها مادام الأب قادرا على ذلك.

"ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها" في النهاية .. أما استسهال نفض اليد تماما من كل مسئولية عن زواج الابنة بدعوى أنه قد علمها أو أنها تعمل مع قدرته على القيام بواجبه تجاهها .. فليس سوى أنانية .. ونكوص عن أداء الواجب وبعد عن القيم الدينية الصحيحة .

أما حكاية الألقاب المخجلة العجيبة هذه .. فليست سوى صورة أخرى من صورة اللامبالاة والاستهتار والبعد عن التربية الصحيحة , فالأثر النفسي السلبي لمثل هذه الكلمات الطائشة التي يطلقها البعض على أبنائهم في طفولتهم قد يصاحبهم إلى مراحل العمر الأخرى .. وقد يرسب في أعماق اللاشعور لديهم بعض صفات هذه الألفاظ المخجلة فيطبع شخصياتهم ببعض سلبياتهم من حيث لا يشاءون .. وقد يرسخ لديهم أيضا شعورا غامضا بالدونية وانعدام الثقة في النفس .. وانعدام التقدير الذاتي.

يبقى بعد ذلك أن أقول أنه من رحمة ربك أن يتراحم غالبا الأبناء الذين يجمعهم تخلي الأبوين عن واجبهم تجاههم فيعوضوا بتكافلهم وتعاونهم نقصهم .. ويتساندوا في مواجهة أنواء الحياة .

وما سلوك شقيقتك معك عند زواجك إلا مثالا متكررا لهذا التكافل في أجمل صورة .. وما سعيك لرد جميلها سوى مثال آخر لهذا التراحم الإنساني بين شركاء الحرمان والمصير فاتصلي بي مساء غد يا سيدتي وإلى الله سبحانه وتعالى ترجع كل الأمور.

 

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مايو 1994

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات