الرحلة الموعودة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

الرحلة الموعودة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994


 

أشفقت عليك وعلى قرائك من تلال الهموم التي تحيط بك دائما فأردت أن أوقد شمعة صغيرة وسط ظلام هذه الهموم.

فلقد نشأت في أسرة صغيرة العدد بين أب وأم وأخت وحيدة تصغرني بعامين كنت في طفولتي أعتبرها الأخ والأخت والصديق وكانت أختي على العكس مني ريانة الجسم ومكتملة الصحة فأصابها فجأة وهي في عامها الثامن هزال غريب فقدت معه وخلال فترة قصيرة كثيرا من وزنها وظهرت عليها أعراض العطش السريع والبوال "التبول" المستمر وسرعان ما صدم الطبيب أبي وأمي بأنها قد أصيبت بمرض السكر وهي في هذه السن الغضة مع أن أسرتي أبواي تخلوان تماما مع أى حالة سكر . وبدأت الصغيرة معاناتها المؤلمة مع مرضها.

ولم تمض شهور على اكتشافه حتى أصابتها نوبة قلبية مفاجئة فقضت عليها في ساعات وزلزلت كيان أبي وأمي ونفسي , ومع أني كنت في العاشرة من عمري في ذلك الوقت فمازلت أذكر حتى الآن جو الحزن الكئيب الذي خيم على بيتنا بعد رحيل أختي المفاجئ , والصمت الثقيل الذي ران على بيتنا فلا تقطعه من حين لآخر إلا يد أبي على جبهته مستجيرا بربه من وطأة آلامه , كما مازلت أذكر أيضا اغماءة أمي المفاجئة إذا ما جلست في مكان عام وتصادف أن جاءت جلستها إلى جوار سيدة تحتضن طفلة في عمر شقيقتي. وبعد عامين طويلين تحامل أبي وأمي على نفسيهما , وتظاهر أبي ذات يوم بالمرح وبشرني بأنه سيصطحبني بعد أيام في رحلة خلوية في شم النسيم ليخفف عني الجو القاتم الذي أعايشه منذ عامين.

 وفي ليلة الرحلة الموعودة فاجأه مرض قاس وهو الذي لم يمرض يوما واحدا في حياته من قبل فلم يطلع النهار حتى كان قد أبحر في رحلة أبدية أخرى لا رجوع منها .. واستقر الذهول والخوف والحزن في ملامح وجهي بعد هذه المأساة الثانية , وازددنا أنا وأمي انطواء على نفسنا بعد أن فقدنا نصف أسرتنا الصغيرة في عامين فقط وعشش الوهم في صدري وأنا صبي صغير خوفا من أن أصاب بمرض قاتل كالذي أودى بحياة أختي وأبي بغير سابق إنذار .. وأثر خوفي العميق من المرض في صمتي فأصبحت كالعليل دون مرض , وحين قاربت الخامسة عشرة من عمري ظهرت علي نفس الأعراض المخفية التي لاحظتها على أختي الصغيرة من العطش والبوال المستمرين , فتملكتني فجأة رغبة انتحارية عارمة للتخلص من الحياة التي عانيت فيها الألم والخوف في سنواتي الماضية فرحت التهم الحلوى بشراهة غير مفهمومة .. وبرغبة قاهرة لا تقاوم .. فلم يطل الوقت حتى سقطت في غيبوبه السكر لأول مرة في حياتي .. وتنبهت منها فوجدت نفسي في أحد المستشفيات الجامعية وأمضيت في المستشفى فترة لا أذكرها الآن على وجه التحديد لكني أتذكر جيدا صورة أمي وهي تأتي إلي كل يوم حاملة دجاجة مسلوقة , وتحليلا "مزيفا" يزعم خلو جسمي من السكر في البول والدم , خوفا علي مما قد يصبني من رعب إذا تأكدت من حقيقة المرض , كما لازلت أتذكر جلستها إلى جوار فراشي وهي تردد من حين لآخر عبارة : الله أكبر لتدفع بها حزنها على ابنتها وزوجها وهلعها على ابنها الوحيد , واستقرت حالتي الصحية بحقني بالأنسولين ثلاث مرات يوميا خلال فترة العلاج وحانت لحظة مغادرة المستشفى ومواجهة الحقيقة وذكريات رحيل أختي بنفس المرض .. ورجعت إلى بيتي نحيلا مهزولا وأجلستني أمي أمامها وصارحتني بالحقيقة المؤلمة بشجاعة وصبر واحتساب وطالبتني بأن أفعل ما تفعله هي للتغلب على أحزانها فأردد معها كل حين "الله أكبر" و"رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي" ورجتني أن أتذكر دائما أن الله وإن كان قد قدر علي هذا المرض فإنه سبحانه لم يسلب مني عضوا من أعضاء جسمي فيداي في موضعهما وساقاي سليمتان وبصري صحيح وسمعي واضح .. ومن واجبي أن أشكر الله كثيرا على نعمه ولا أنساها .. "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" ولست أذكر الآن بما أجبتها على ما قالته لي .. لكني أذكر جيدا أني قد امتثلت لقضاء ربي وقدره .. ونهضت لمغالبة ظروفي معتمدا على نفسي فتعلمت كيف أحقن نفسي ثلاث مرات يوميا بالأنسولين , وقررت أن أكتم مرضي عن كل من يعرفني عدا طبيبي تجنبنا لإشفاق المشفقين أو شماته الشامتين , ومضى الشهر الأول من محنتي وأنا صامد وصابر .. فاجتزت أهم الصعاب .. وهي صعوبة الصدمة الأولى .. وتوالت الشهور والأعوام بعد ذلك فتخرجت في كلية الحقوق وأنا في التاسعة عشرة من عمري وعينت وكيل للنائب العام وتدرجت في مناصب القضاء حتى شغلت أعلاها ولم أتوقف عن الدراسة بعد التخرج فحصلت على الماجستير ثم الدكتوراه مما أتاح لي فرص العمل أستاذا متفرغا في جامعات عربية وأستاذا غير متفرغ في جامعات مصرية أخرى.

وليس يعني ذلك أن رحلتي مع المرض كانت رحلة خلوية هادئة أو أنني لم أعان شيئا بسبب حالتي الصحية .

فسكر الطفولة يا سيدي يفرض على المريض به أن يعيش حياته سائرا فوق سلك مشدود إذا فقد توازنه فوقه سقط منه في غيبوبه السكر فهو إن زاد من تناول السكريات أصيب بغيبوبة زيادة السكر وإذا انقص منها عن الحد المقبول أصيب بغيبوبه نقص السكر , وفي كلا الحالتين فإنه إن لم يتم اسعافه سريعا قد تتعرض حياته للخطر أو قد يتعرض للإصابات بعاهات أخرى لا شفاء له منها ولعل أخطر نوبات نقص السكر هو ما يصيب المريض منها خلال نومه فتحول اغفاءاته دون اسعافه سريعا فلم أسلم من مثل هذه النوبات .. كما لم أسلم من بعض أوقات الخطوة .. كالأوقات التي أقود فيها سيارتي لكني في اللحظات التي أكاد أغيب فيها عن الوعي كنت أحس دائما بقوة عجيبة تدفعني للنجاة منها .. وفي هذا المجال فقد تحملت أمي رحمها الله ثم زوجتي من بعدها الكثير والكثير جزاهما الله عني خير الجزاء.

ولقد نظرت إلى حياتي الماضية فوجدت أنني قد أتممت الآن خمسين عاما من صحبتي لمرض السكر حقنت بما لا يقل بحال من الأحوال عن خمسين ألف جنيه عدا حقن الفيتامينات والحقن الأخرى , حتى لم يبق موضع للحقن في جسمي لم تنغرز فيه الإبرة مئات بل آلاف المرات , ولأنك قد عودت قراءك على المشاركة في الخير وتبادل خبرة الحياة والاستفادة من دروس الألم فلقد فكرت في أن أكتب كتابا تحت عنوان "خمسون سنة سكر" ، أسجل فيه خواطري وخبراتي وتجاربي مع معايشة عدو ما من صداقته بد لمدة 50 سنة ليستفيد به مرضى السكر العديدون في مغالبة الجزع الذي ينتابهم من المرض .. وفي الصبر عليه وعلى آلام الحياة .. لكني لست ملما بشئون الطباعة والنشر .. فهل لك أن تتوسط لي في إتمام هذا الأمر فتعهد به إلى دار نشر محترمة  تتولى إصداره على أن تكون عائداته لبريد الأهرام ليوجهها بإشرافك إلى الأطفال الممتحنين بمرض السكر ؟.

أما اخواني المرضى .. والآباء والأمهات الذي يقاسون من مرض أطفالهم بالسكر فإني أقول لهم إنما الدنيا دار اختبار , ولقد تنزهت حكمة الخالق عن أن يخلقنا في هذه الحياة لتصيبنا علل ومواجع لا ذنب لنا فيها , ولهذا فإن "الجائزة" كما يسميها دائما صاحب بريد الجمعة عما أصابنا سننالها بإذن الله في دار القرار وليس في هذه الدنيا .. فاللهم إني أسألك قلبا خاشعا وعلما نافعا وبدنا على البلاء صابرا كما أسألك حسن الجزاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولـــكـــاتـــب هـــذه الـــرســـالـــة أقــــول:

 

لابد للإنسان دائما أن يتعلم كيف يعيش "بشئ ما" يزعجه .. أو يؤلمه .. أو ينقصه .. ولقد طبقت أنت يا سيدي هذا المبدأ فتعلمت كيف تعيش بمحنة السكر المبكر واليتم وكيف تحقق أهدافك في الحياة بمصاحبتها وكما حقنت نفسك بخمسين ألف حقنة أنسولين أو تزيد حتى الآن فقد حقنتها أيضا بما هو أنفع وأقدر على مواجهة المحن .. وهو الإيمان بالله والثقة به والرضا بحسن اختياره لك بالأمل أيضا في الغد الأفضل.

 إن محنة السكر الحقيقية ليست في الكبار الذين تمتحنهم الأقدار به في أي مرحلة من العمر .. وإنما في الصغر الذين تقصرعقولهم عن فهم كلمة الابتلاء حين يبتلون به في طفولتهم وتضيق صدورهم ونفوسهم بحرمانهم مما يتمتع به الأطفال الآخرون من حرية في الحركة وفي المأكل قدرت عليهم الأقدار ألا يشاركوهم فيها .. لهذا فهي محنة آبائهم وأمهاتهم أكثر مما هي محنة هؤلاء الصغار .. ومع ذلك فليست هناك وسيلة أفضل للتعامل معهم مما اتبعته معك والدتك منذ 50 عاما بفطرتها الحكيمة وهي وسيلة المواجهة واستنهاض شجاعتهم الروحية للصمود للمحنة وتجاوزها .. والاستفادة منها في حفز قدراتهم على تأكيد الذات جنبا إلى جنب .. مع الرفق بهم في نفس الوقت وتحمل ثوراتهم حين يضيقون أحيانا بقيود المرض والحرمان .. أعان الله الجميع على أقدارهم وأثابهم عنها جوائز الدنيا والآخرة .. وأهلا بكتابك المفيد بغير شك لكثيرين من مرضى السكر وشكرا لتفكيرك في توجيه عائده لأطفالك السكر الصغار .. وأيضا لرغبتك في مشاركة الآخرين لك في دروس تجربتك مع الصبر والألم .. والأمل .

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة"مايو 1994

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات