المصابيح المضيئة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

المصابيح المضيئة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

المصابيح المضيئة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

أنا سيدة من الجنوب نشأت يتيمة الأب وكنت صغرى إخوتي وهم ثلاثة إخوة وأختان وبعد حصولي على شهادتي تزوجت زواجا تقليديا من موظف من أسرة مناسبة اجتماعيا لأسرتنا وعقد قراني عليه وبعد عقد القران جاءني خطيبي وصارحني بأنه غير مستعد للزواج ودهشت وسألته عن السبب فصارحني بأنه يخشى على صحته من الزواج لأنه مريض وينزف دما من صدره كل فترة .

وهونت عليه الأمر وشجعته على الزواج دون أن يخشى شيئا على صحته لأني سأهتم بصحته وسأصبر عليه إلى أن يتحقق له الشفاء بإذن الله , وتزوجنا وعرفت بعد الزواج أنه مريض بمرض صدري .. ورعيته صحيا ونفسيا , ومع ذلك فقد كانت رحلة حياتي معه ضربا واهانة وسبابا وخصاما بالسنة الكاملة أو نصف السنة , كما كانت أيضا حرمانا عاطفيا وحرمانا ماديا , إذ لم يكن يسهم في نفقات البيت إلا بأقل القليل وأنفق أنا مرتبي كله عليه .

وكلما ثارت أعصابه لأي سبب من الأسباب حرمني حتى من هذا القليل , وكلما ضاقت نفسي بما أعانيه فررت إلى بيت أسرتي لأستريح أسبوعا أو عشرة أيام ثم أعود إلى بيتي لأرعى أطفالي وهم ثلاثة , وبعد كل هذا العناء رحل عن الحياة وأطفالي صغار وعشت حياة الأرملة الوحيدة وقاسيت أهوالها في تربية أولادي وحدي .. وكنت أعايش الخوف من الحاضر والمستقبل , وأنام وقد أضأت كل مصابيح الاضاءة في الشقة كلها لكي تدفع عني الظلام والخوف .

وتقدم لي بعد وفاة زوجي أكثر من خاطب مناسب لكني رفضتهم حرصا على أبنائي .. ولاحظت على نفسي في نفس الوقت أنه كلما تقدم لي خاطب ورفضته كنت أقسو على أولادي وأنا لا أدري أنني أفعل ذلك لاحساسي بأنهم السبب في حرماني من السعادة والاشباع العاطفي الذي لم أجده في زواجي الأول .

وبعد وفاة زوجي بعدة سنوات مات أحد إخوتي الثلاثة وترك وراءه زوجة تصغرني بأربع سنوات وثلاثة أبناء .

ومضت السنوات وتقدم أبنائي في مراحل الدراسة حتى أوشكت ابنتي الكبرى على التخرج ووجدت نفسي في الثانية والأربعين من العمر .. وابنتي يتقدم لها الخطاب حيث تتزوج الفتيات صغيرات في مجتمعنا بالجنوب , وسوف تذهب إلى بيتها ومن بعدها أخواها بعد قليل .. وسأجد نفسي وحيدة في البيت الذي توقفت عن اضاءة مصابيحه خلال النوم بعد أن كبر الأبناء .

وفي هذه الظروف تقدم لي إنسان عمره 52 عاما وأرمل منذ سبع سنوات ولديه أولاد في أعمار أولادي بعد أن رآني في عملي أكثر من مرة وتبادل معي الحديث حول شئون العمل .. وأحسست باهتمامه بي .. وأحس باهتمامي به .. وجمع بيننا تشابه ظروفنا .

وبعد تردد طويل فاتحني في أن كلا منا يحتاج إلى الآخر ليعوض به عناء حياته ويتساند عليه في رحلة الحياة , واقترح علي أن نتزوج على أن يبقى كل منا يعيش في بيته ومع أولاده ويتردد بيني وبينهم إلى أن تتخفف بعض أحمالنا بنمو الأبناء وأنتقالهم إلى كلياتهم أو بيوتهم الخاصة .. ووجدت في ذلك حلا ملائما لا يتعارض مع حرصي على أولادي ولا يتعارض مع حرصه على أولاده .

وكتب الرجل إلى أخي الأكبر وهو مدير إدارة بإحدى المدن القريبة من مدينتنا وإلى شقيقي الآخر الذي يعمل بإحدى الدول العربية طالبا يدي, فرفضا رفضا باتا وكانت مبرراتهما للرفض أنني إذا تزوجت هذا الإنسان فسوف تغار مني أرملة شقيقي وتفعل نفس الشئ وتترك لهما أولاد أخيهما , ولو حدث ذلك فلن يكون أمامهما حل سوى أن يضموهم إلى أولادي , وسكت خجلا وأنا أغلي دما فلقد ربطا مصيري بمصير أرملة شقيقى ولم يجيبا على الرجل الذي طلبني منهما .. وهو الآن محرج من تجاهل طلبه ويطالبني بأن أتدخل .. وأنا أيضا محرجة وخائفة من المستقبل ومترددة .. فهل تنصحني بأن أتحدث إلى إخوتي صراحة عن حاجتي العاطفية إلى هذا الإنسان .. أم ألتزم الصمت والصبر إلى أن يضيع العمر كله كما ضاع في سنوات الزواج الأولى الكئيبة ؟

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولـــكـــاتــبـــة هــذه الـــرسالـــة أقـــول :

 

لكل إنسان ظروفه الخاصة واحتياجاته النفسية والعاطفية التي قد تختلف من واحد لآخر .. ومن مرحلة من مراحل العمر إلى مرحلة أخرى .. وأنت الآن في مرحلة من العمر تسمح لك ظروفك فيها بالزواج دون أن يؤثر هذا الزواج على وضع أبنائك ولا على حقوقهم عليك . كما أن مبرراتك للزواج أقوى من مبررات غيرك وأكثر إلحاح مع اقترابك من مرحلة منتصف العمر ومع تاريخك القديم في الحرمان العاطفي .. وحيث لم تتزوجي بالمعنى المفهوم للزواج من قبل وإن كنت قد تحملت تبعاته من الانجاب والأعباء , وبعض الأزواج والزوجات يحق عليهم القول حقا بأنهم لم يعرفوا من الزواج سوى مشاكله وتبعاته .. ولم يعرفوا من الحياة سوى جانبها الحزين.

لهذا كله ليس من العدل أن يرتهن حل مشكلتك بحل مشكلة أرملة شقيقك .. ولا من الانصاف حرمانك من فرصة الارتباط بمن يرغبك وترغبينه تحسبا لأن تقلدك أرملة شقيقك وتتزوج , إذ من يدري أنها ترغب في الزواج من الأصل ؟ .. ومن يدري أنها إذا رغبت فيه فإنها ترغبه الآن وليس بعد أن يشتد عود أبنائها كما فعلت .. ومن أين جاءهم اليقين ولا يعلم الغيب إلا الله أنها سوف توافق على الفور وليس في وقت آخر إلى من تراه جديرا بها ؟..

ولو حدث ذلك فلماذا تتحملين وحدك تبعاته بغير أن يشاركك شقيقاك حملها كما تقضي بذلك المسئولية العائلية المشتركة بين الجميع .. وليست المقصورة على أرملة وحيدة وتعيسة مثلك.

 

لهذا كله فإني أنصحك بأن تتحدثي برغبتك في الزواج إلى شقيقيك بصراحة .. ورغم وطأة التقاليد في مجتمعك إلا أنهما وهما مثقفان سوف ينتصران للعدل في النهاية وللعاطفة الأخوية ويسلمان بحقك في نيل السعادة بالطرق المشروعة.

نعم إن الأبناء قد يتضررون نفسيا من زواج الأم لابد أن نسلم بذلك , لكن للضرورة أحكاما .. ومتى أحست المرأة في نفسها بالرغبة في الزواج والحاجة إليه فمن الأفضل والأكرم لها أن تقدم عليه بلا لوم عليها , فلاشك أن ذلك أفضل لها من مكابدة الحرمان .. ومن التجهم للحياة والاحساس بأن أبناءها هم السبب في حرمانها من السعادة مما ينعكس على معاملتها لهم معاملة غير طبيعية كما فعلت أنت نفسك في مرحلة سابقة .

والإنسان التعيس يعجز في بعض الأحيان عن اسعاد الآخرين لهذا فإن الحل الذي يقترحه عليك من يرغبك حل ملائم جدا لظروف كل منكما في المرحلة الحالية.

فتحدثي إلى شقيقيك ودافعي عن سعادتك بثقة وثبات .. وسوف تنالين تأييد شقيقيك في النهاية إن شاء الله .

 

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مايو 1994

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات