القائمة الرئيسية

الصفحات

لحظة الضعف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

 

لحظة الضعف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998


 لحظة الضعف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998


أنا رجل فى الخامسة والخمسين من عمري من عائلة صعيدية ميسورة , أرسلني أبي إلى الخارج للحصول على الشهادات الجامعية .. ورجعت إلى بلدي وأنشأت شركة خاصة بي وأنا في بداية الثلاثيات من عمري, وخلال غربتي التقيت بفتيات كثيرات لكن, لم تجذب مشاعري واحدة منهن وإنما اجتذبتها بعد عودتي لبلدي فتاة مصرية عمرها 28 سنة عملت معي وسحرتني بجمالها الخلاب وشخصيتها المرحة وابتسامتها الجذابة .. فتحريت عنها وعرفت أنها من أسرة متوسطة ومحترمة ومتدينة , وأنها كانت مخطوبة لأحد اقاربها من قبل , فقربتها مني في العمل وحاولت الاقتراب منها, فسدت على كل الأبواب ورفضت كل محاولاتي, وحاولت استمالتها بالهدايا والوعود, فرفضت كل الاغراءات وظلت متمسكة باحترامها لنفسها, فوجدت نفسي أسيرا لهواها .. ومستعدا لأن أفعل أي شئ لكي أفوز بحبها , ولأنها كانت كالجبل الذي لا يلين فلقد لجأت إلى والدها ورحب بي وقدمني لكل أفراد أسرته الذين رحبوا بي أيضا , أما هي فقد ظلت ساهمة وتعاني من قلق غير مفهوم دائما, وحاولت أن أعرف أسباب ذلك فلم أنجح معها .. وأخيرا وافقت على الزواج مني بشرط أن يتم في أضيق الحدود وبلا احتفال كبير, ولم أفهم سبب ذلك أيضا لكني وافقت على أية حال , وتم الزواج بالفعل من 20 سنة, وفي ليلة الزفاف التي مازلت أذكرها حتى الآن بكيت بالدمع السخين لأني وجدت حبيبة القلب ليست عذراء .. ولها تجارب سابقة .

 

فبكيت في ليلة سعادتي , أما هي فقد ظلت كما هي صامدة كالجبل قوية متماسكة، وكان كل ما قالتله لي هو أنها لحظة ضعف مع خطيبي السابق, وإذا لم تقتنع بصدقي فلك أن تبتعد عني وسوف أتنازل عن كل حقوقي .. لكني لم أبتعد عنها .. وغفرت لها .. وللحق فإني لم أر عليها أى انحراف بل كانت ومازالت السيدة المحترمة المخلصة لزوجها وبيتها, ومضت الأعوام وانجبنا الأبناء ونسيت لحظة الضعف هذه لفترة .. ثم رجعت الوساوس والتخيلات تراودني من جديد طوال 20 عاما حتى الآن .. ومازلت أسمي هذه الليلة التي عرفت فيها عنها ذلك الليلة السوداء.



 

ولــكـاتــب هــذه الـرســالــة أقــول:

 

ذكرتني رسالتك بكلمة غريبة لأحد الحكماء العرب يقول فيها : خيار خصال النساء, شرار خصال الرجال ! الزهو والجبن والبخل فإذا كانت المرأة مزهوة بنفسها لم تمكن أحدا منها ضنا بنفسها عليه .. وإذا كانت جبانة خافت من كل شئ يعرض لها فتجنبت الكثير من المهالك .. وإذا كانت بخيلة حفظت مال زوجها !

ولقد ترددت في نشر رسالتك هذه لأنها قد تعطي انطباعا خاطئا عن شيوع المشكلة .. غير أني قد رجحت النشر في النهاية لأنها تتيح لنا الاقتراب من مشكلة شائكة يدور البعض حولها دون أن يجرؤوا نفسيا على مواجهتها .. فرسالتك تكشف لمن لم يكن يعرف من قبل أن  "الرجل" فى عالمنا العربي لا ينسى غالبا ولو بعد 20 عاما .. وربما طوال العمر أنه لم يكن "الرجل الأول" فى حياة زوجته التي لم تتزوج قبله ولا "يغفر" لها ذلك في أعماقه حتى ولو تظاهر أمام نفسه أو أمامها بغيره , ولأن هذه هي الحقيقة التي يدور البعض حولهما, فلقد بدأت مشكلتك الحقيقية حين تظاهرت أمام نفسك بأنك قد "غفرت" لها، ولم تكن في الحقيقة قد فعلت, ولا أقتنع عقلك الباطن بذلك .. "ولأن كل شئ يتغير إلا أمس" كما يقول اديبنا العظيم نجيب محفوظ فإنك لا تستطيع بالفعل أن تغير من احساسك انت بها .. ومن أثرها عليك إذا أردت ذلك وغالبت نفسك عليه.

وفي مثل ذلك الموقف الذي واجهته منذ عشرين سنة فإنه لا خيار للرجل سوى أمرين : القبول النفسي بالأمر الواقع والغفران الحقيقي اعتمادا على تجربته الشخصية في التعامل مع من أصبحت شريكة حياته , واختباره الشخصي لظروفها وأخلاقياتها وإخلاصها, وإما التسليم الصريح بالعجز عن احتمال "الحقيقة" والاعتراف بذلك دون خداع للنفس أو تأثر بالرغبة الملحة في الطرف الآخر ثم التصرف تبعا لذلك .

أما القبول الظاهري بالأمر الواقع .. والرفض الداخلي له .. فلا يثمر إلا المعاناة والشك والعلاقة غير السوية بين الطرفين على مر السنين.

وحالك في ذلك شبيه بما أشار إليه الشاعر بقوله :

إذا ما الجرح رَم على فساد

تبين فيه تفريط الطبيب

ولأنك طبيب نفسك فالمسئولية تقع عليك في هذا التفريط لأنك لم تطهر الجرح قبل رمه .. وكان من نتائج ذلك المعاناة والشك والعجز عن النسيان بعد 20 عاما.

على أية حال فإن لرسالتك هذه مغزى عميقا يكرر ما قاله الأب الحكيم لمن استنصحه فنصحها قائلا :

لا تقربي اللذة إلا والخاتم حول أصبعك !

وفي التمسك بالقيم الدينية والالتزام بنواهي الدين وحدوده ما يحفظ الجميع على الجانبين دائما من التعرض لمثل هذه المعاناة، فعسى أن يكون أقدامك على البوح بما تعانيه طوال عشرين عاما ولا تجرؤ على الحديث عنه مع أحد ولو على الورق ومن خلف ستار, هو بداية لاخراج هذا البخار المكتوم من مكمنه, وتخفيف ضغوطه عليك .. وعسى أن يكون ذلك أيضا بداية جديدة لك للتوافق مع حياتك والرضا عنها والقبول بها بلا تحفظات ولا هواجس ولا شكوك !

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر 1998

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

 راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود