الوجه الحقيقي .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001
أنا رجل في منتصف
العقد الرابع من العمر ومن أسرة طيبة بمدينة ساحلية, كنت في بداية حياتي على
علاقة عاطفية رائعة مع فتاة جميلة رقيقة ذات دين وأخلاق, فتقدمت لخطبتها فور
تخرجي من الكلية وتمت الخطبة ولم تكن هناك أية مشاكل تعترض طريقنا فأنا أعمل مع
والدي في مكتبه ولي شقة في منزل يمتلكه وكل شيء يبشر بالسعادة والوفاق, وخلال
فترة الخطبة احتجنا في مكتب أبي إلى فتاة للعمل كناسخة على الآلة الكاتبة,
فتقدمت إلينا عن طريق أحد المعارف فتاة متواضعة الشكل والحال وسلمناها العمل,
وبعد فترة وجيزة وجدت هذه الفتاة تتقرب مني وتتودد إلي بكل السبل بالرغم من دبلة
الخطبة التي أرتديها في إصبعي, فلم يمض وقت طويل حتى كانت قد نشأت بيننا علاقة
خاصة بدأت بالقبلات خلال وجودنا وحدنا بالمكتب بعد ساعات العمل, وتطورت إلى ما
هو أعمق من ذلك حتى أفقت ذات مرة على صرختها المدوية وعويلها.. وحاولت قدر جهدي
تهدئة روعها فلم يمض يوم حتى كان والدها قد جاءني في المكتب باكيا ومتوسلا لي أن
أصلح خطئي مع ابنته بأية وسيلة متعهدا بأن يكتم الأمر عن الجميع حتى إخوتها.
وحاولت في البداية
أن أوضح له أنني لم أكن المسئول الوحيد عن الخطأ, وأن لابنته نصيبا من المسئولية
عما جرتني إليه, ثم أنني خاطب لفتاة أخرى وليس هناك أي تكافؤ بين أسرته وأسرتي
فهو عامل بمقهى شعبي وكل أبنائه ما عدا هذه الفتاة أميون, وأسرتي على النقيض من
ذلك في كل شيء وكل أفرادها متعلمون ويشغلون مناصب مرموقة.. لكنه راح يناشد
الإنسان في أعماقي ويستشهد بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وقدم لي تنازلات
عديدة كالتنازل عن الشبكة والمهر وكل شيء لإتمام الزواج من ابنته ولو لفترة محدودة
أطلقها بعدها, وأتزوج بمن أشاء, وعلي أن أتقدم لخطبتها بالطريق التقليدي وكأن
شيئا لم يحدث.
وعشت بعد هذا
الحديث فترة عصيبة ممزقا بين حبي لخطيبتي وضميري الذي يؤرقني ويطالبني بعدم التخلي
عن هذه الفتاة بعد ما حدث بيننا.. وشعرت خطيبتي بتغيري وإهمالي لها.. وتقاعسي
عن اتخاذ أية خطوة ايجابية لتأسيس عش الزوجية المرتقب.. وحاولت كثيرا أن تعرف
أسباب تحولي عنها, وتستحلفني بحبنا الكبير أن أصارحها بالحقيقة أو بجريمتها التي
تعاقب عليها دون أن تعرفها مع استعدادها الكامل للوقوف بجانبي أيا كان الموقف الذي
أواجهه .. لكني لم أجد في نفسي الشجاعة
الكافية لأن أصارحها بخطيئتي, فيئست مني في النهاية ورمت بدبلة الخطبة في وجهي
وفقدت بذلك الحب الكبير والوفاء والطهارة والأمل, لكن خشيتي لربي وخوفي من عقابه
كانا أكبر من كل شيء.. وبعد أيام فاتحت أبي برغبتي في خطبة ناسخة الآلة الكاتبة
بمكتبنا.. وانفجر البركان الصاخب في محيط أسرتنا.. وبعد ثورة عارمة من الجميع
صمدت لها واستنفدت خلالها كل وسائل الإقناع والتبرير بالمبررات الوهمية سلم الأهل
أمرهم لخالقهم واصطحبني أبي وأعمامي وأخوالي إلى بيت زوجة المستقبل لطلب يدها..
وكان يوما لم أنسه ولن أنساه طوال العمر, فقد كان بيت العروس عبارة عن حجرتين
متداخلتين من شقة من أربع حجرات تقيم في الحجرتين الباقيتين أسرتان أخريان, وتم
استقبالنا في حجرة بها دولاب وسرير وكنبة بلدية ومنضدة متآكلة ومتصدعة, ولا أنكر
ما شعرت به في تلك اللحظة من خجل واستحياء ممن اصطحبتهم معي إلى هذه المناسبة,
ليس فقط من رثاثة الحال وإنما أيضا مما سمعناه ونحن في
ضيافتهم من ألفاظ سوقية وشهدناه من تصرفات حمقاء.
وبعد قدر هائل من التوبيخ والتأنيب والنصائح
والتهديد بالمقاطعة لي من أبي وأعمامي وأخوالي تم الزواج على عجل وسط إجماع أهلي
على أن هذه الزيجة محكوم عليها بالفشل وأنها سوف تهوى بي إلى القاع بدلا من أن
ترفعني إلى أعلى, وتزوجنا ووجدت زوجتي غاية في الطاعة والحنان وتبذل كل ما في
وسعها لإسعادي لكيلا أشعر بالندم على ارتباطي بها.. وأصرف عن ذهني فكرة طلاقها
بعد حين, ثم حملت زوجتي سريعا ووضعت مولودها وما كادت تلتقط أنفاسها من آلام
النفاس والولادة حتى كانت قد حملت مرة ثانية.. وما أن جاء المولود الثاني حتى
بدأت تكشف القناع عن وجهها الحقيقي وتكشر عن أنيابها وتتحول إلى شخصية مختلفة
تماما اعتمادا على تعلقي بالطفلين وحبي لهما وارتباطي بهما وبعد أن أصبحا نقطة
الضعف الوحيدة في حياتي, فتغيرت معاملتها لي وأسلوبها معي وبدأت أسمع منها ما
أكره وأرى ما لا يسرني.. كما بدأت تتعمد إحراجي كلما زارنا أحد من أهلي لكيلا
يكرر زيارته لنا مرة أخرى وبعد أن كانت في شهور الزواج الأولى تشيد بي وبشهامتي
وتقبل يدي شكرا وعرفانا لأني لم أتخل عنها في محنتها وسترت عرضها, بدأت تشيع بين
الجميع أنني أنا الذي طاردتها بإلحاح لكي أتزوجها وفعلت معها المستحيل لكي اثنيها
عن إصرارها على رفضي زوجا لها!
ورغم ذلك فليست هذه
هي المشكلة وإنما المشكلة الحقيقية هي العقدة المترسبة في أعماقها والتي توهمها
إنني على علاقة بكل سيدة أو فتاة أتحدث معها في أي أمر من الأمور ولأنني قد
استقللت بعمل تجاري في نفس العمارة التي نقيم بها فلقد أصبحت الفرصة متاحة لها
للتلصص علي في كل الأوقات كأنما تتمنى العثور على دليل يثبت لها خيانتي المزعومة,
وكلما دخلت إلى تجارتي سيدة اعتقدت أنني على علاقة بها وكلما جاملت جارة من
جاراتنا تصورت إنني عازم على الزواج منها, وكلما خلعت ملابسي في البيت فتشتها
خفية بحثا عن هذا الدليل, ويحدث ذلك كل يوم وبأسلوب سوقي رخيص على مسمع ومرأى من
الجيران حتى ساءت سمعتي بينهم وبدأت أعاني في عملي من الركود وتحولت حياتي معها
إلى جحيم يومي.
ومع أنني اخجل من
مصاحبتها إلى أي مكان وأخشى كذلك استقبال أحد من أهلي أو أصدقائي في بيتي تحسبا
لما سوف تثيره من مشكلات محرجة لي أمامهم, فاني أقسم لك بالله العظيم إنني
مستقيم في حياتي الشخصية ولا يشغلني سوى عملي وأبنائي.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
فات أوان الندم على سوء الاختيار يا صديقي, ولم يبق إلا أن تواصل تحملك لمسئوليتك عن الخطأ الذي جمع بينك وبين زوجتك في حياة مشتركة, مادمت قد أنجبت منها وتحرص على نشأة طفليك بين أبويهما. فلقد تحملت مسئوليتك بشرف عما وقع بينك وبينها في البداية ولم تنكص عن أداء واجبك تجاهها.. والآن فإن واجبك الأكبر تجاه أبنائك يفرض عليك أن تبذل كل ما تستطيع من طاقة وجهد لإنجاح حياتك الزوجية معها, وتفادي الآثار السلبية للتفاوت العائلي والثقافي بينك وبينها وحماية أبنائك بقدر الإمكان منها.. فالشرفاء هم الذين لا يتقاعسون عن تحمل عواقب أخطائهم مهما كانت جسيمة.. وأهل السماحة هم الذين لا يجلدون أحدا بأخطائه طوال العمر خاصة إذا كانوا يشاركونه المسئولية عنها.
والخطيئة القديمة
لم يكن فيها جان ومجني عليه وإنما كان هناك جانيان يتقاسمان إثمها وعاقبتها,
وإذا كنت تشعر في أعماقك بأن مسئولية زوجتك عنها أكبر لإغوائها لك وتقربها منك
وتفريطها في شرفها معك فالحق هو أن مسئوليتك عنها لا تقل جسامة عن مسئوليتها هي إن
لم تزد عليها فقد كنت حين استجبت لها مرتبطا بفتاة أخرى تقول أنه كانت تجمعك معها
علاقة حب رائعة وتستعد للزواج منها. وكان المفترض أن يعصمك الحب الحقيقي عن
الخطأ ويحميك من الغواية.. وبالتالي فإن المسئولية متساوية وإن اختلفت الظروف.
ولاشك في أن السبب
البعيد لما تعانيه الآن من سوء ظن زوجتك بك وشكها الدائم فيك ومواجهاتها العلنية
لك كلما استشعرت اهتماما منك بأي سيدة.. نفسه هذا الضعف القديم معها حين كنت
خاطبا لأخرى واستجبت لها بالرغم من ذلك ومنطقها في ذلك هو أنه إذا كنت قد استجبت
لإغرائها وهي الفتاة متواضعة الشكل والحال.. وأنت مرتبط ارتباطا عاطفيا بفتاة
رائعة الجمال ومن أسرة طيبة وتتكافأ مع أسرتك اجتماعيا وعائليا.. فكيف لك أن
تقاوم أي إغراء جديد وأنت مرتبط بمن لو لم تقع معها في بئر الخطيئة ذات يوم لما
قدر لها أن تحمل اسمك وترتبط بك؟
ولا عجب في ذلك
فلقد نحاسب أحيانا على خطايانا حتى ممن أخطأنا معهم وأخطأوا معنا.. وشاركونا نفس
الخطأ وقد تلاحقنا إلى حين بعض أخطائنا ولو كنا قد برئنا منها وندمنا عليها منذ
زمن بعيد.
كذلك فإن إحساس
زوجتك الباطني بأن زواجك منها كان في البداية اضطراريا ولم يكن إراديا.. يفقدها
برغم بعد الذكرى الإحساس العميق بالاطمئنان إلى الغد حتى بعد أن تعمقت روابطها معك
بالإنجاب, لهذا فهي في حالة دفاع دائم عن النفس والوجود ضد أي خطر محتمل يمكن أن
يهدد حياتها الزوجية معك.. وضد أي احتمال ولو بعيد لأن تفكر في تصحيح الأوضاع
التي اضطررت إليها ذات يوم تحملا للمسئولية وإرضاء للضمير.
ولأن ثقافتها
محدودة ووسطها العائلي تسود فيه قيم مختلفة, فإن وسائلها للدفاع عن النفس تتخذ
صيغ الشراسة والانقضاض والمواجهة العلنية أمام الملأ.. والتلصص المعيب وعدم
الترفع عن التعبير عن الهواجس والشكوك بالطرق الفجة والسوقية.. فتسيء بغير تحفظ
إلى سمعتك وصورتك بين الآخرين.
فأما الوجه الحقيقي
الذي تقول إنها قد كشفت عنه بعد الإنجاب فلقد كان قائما وموجودا في كل الأوقات,
لكنه كان يستتر تحت قناع الرغبة الملحة في تحويل الزواج المؤقت لإصلاح الخطأ..
إلى زواج دائم ومستمر.. فما أن تحصنت بالإنجاب وتوهمت أن الهدف قد تحقق حتى نزعت
قناعها عنها وآثرت أن تطالعك بوجهها الأصيل الذي تواجه به الحياة. والحق أن
بساطة حالها اجتماعيا لم تكن السبب الرئيسي لانعدام التكافؤ بينكما, إذ ما أكثر
البسطاء الذين يتشاركون مع أهل المنبت الطيب في الاهتداء بقيم دينهم في حياتهم
وتعاملاتهم وعفة اللسان ورقة الحاشية ولين الطبع وإنما كان السبب الأساسي لانعدام
التكافؤ هو التفاوت الواضح في المستوى الثقافي وأسلوب الحياة والقيم السائدة في كل
من وسطها العائلي ووسطك, فأورثها انعدام التكافؤ هذا الإحساس بالنقص تجاهك وعدم
الجدارة والرغبة المرضية في التأكيد لنفسها ولك وللجميع بأنها لا تقل عنك شأنا إن
لم تزد.. ومن هنا جاء اختلاقها لقصة مطاردتك لها للزواج منك, ورفضها لك بإصرار
حتى ظفرت بعد جهد جهيد بموافقتها على الارتباط بك ومن هنا.. جاءت أيضا عدوانيتها
معك أمام أهلك وأصدقائك حين يزورونك كأنما تريد أن تقول لهم ـ وبغير أن تعي ذلك
وعيا كاملا ـ هذا الذي تعتقدون أنه أفضل مني من كل الجوانب وتزوجني إشفاقا علي..
انظروا كيف أعامله بازدراء ويتقبل هو معاملتي له صاغرا لأنه يرغبني ولا يستطيع
الاستغناء عني فضلا عن رغبتها القهرية الأخرى في إبعادك عن محيطك العائلي القديم
لكيلا يظل إحساسك بتميزك عليها حيا في ذهنك, إذا استمر ارتباطك بأهلك وارتباطهم
بك قويا.. وما كانت في حاجة إلى شيء من ذلك وقد اخترت استمرار الحياة معها
وأنجبت منها طفلين ولم تفكر يوما في التخلص منها.
فإذا أردت أن تنعم
بشيء من الهدوء معها فعليك أن تبذل كل ما تملك من جهد لبث الطمأنينة في نفسها
وإزالة هواجسها بشأن المستقبل معك, وأن تتجنب كل ما يغذي نيران شكوكها في احتمال
انصرافك عنها ذات يوم فإذا عجزت عن الإصلاح والتوصل معها إلى صيغة حياة سليمة
فلابد من إشعارها أيضا بأن هذه الحياة التي تنعم بها معك قد تتقوض في النهاية إذا
استمرت على خطئها معك وفشلت كل الحيل معها.
إن الحالة في
النهاية ليست مستعصية على العلاج بدواء الصبر والفهم.. والتجاوز عن بعض التصرفات
اللصيقة بالطبع والتي قد يتعذر التخلص منها بسهولة ومحاولة إشعارها بأنها ومنذ أن
حملت أول نطفة منك قد أصبحت اختيارا إراديا لك وليست زواجا اضطراريا تشعر معه بعدم
الأمان.. وبالتالي فلا بد لها من أن تحاول ضبط انفعالاتها معك وكبح جماح شراستها
حين تستشعر الشك فيك وأن تكف عن خطة الاقتحام ومحاولة ضبط الخيانة في حالة التلبس..
مما يسيء إلى سمعتك ووضعك, وأن تؤجل المواجهة إلى حين يخلو لها وجهك في عشكما
بعيدا عن أنظار الآخرين وأسماعهم ويبقي بعد ذلك أن أقول لك في النهاية: إنك تشكو
مما تصفه بأنها تصرفات سوقية من زوجتك وإخوتها معك وشكواك في محلها بالفعل.. لكن
كيف يغيب عنك في نفس الوقت انك تواجه سوقية زوجتك وإخوتها بسوقية أبلغ منها حين لا
تتفاهم معها سوى باللكم والركل والضرب؟.. وإذا فسرنا بعض دوافع تصرفاتها غير
اللائقة ببساطة مستواها الثقافي والاجتماعي.. فبماذا نفسر سوقيتك أنت في ركلها
ولكمها وضربها عند كل حوار بينكما وأنت المثقف المتعلم سليل الأسرة الكبيرة؟
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2001
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر