نشوة الهزيمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 

نشوة الهزيمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

نشوة الهزيمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 

أنا سيدة في التاسعة والعشرين من عمري .. حين كنت في الثامنة

عشر من عمري,كان لأبي صديق يعمل بإحدى الشركات الأجنبية كان عمره وقتها 38 سنة وذكياً ولماحاً ووسيما وتتمناه أي فتاة..أما أنا فقد كنت طالبة بالثانوية العامة وبإيحاء من أمي سعى أبي لأن يزوجني منه ولم تكن هذه الفكرة قد خطرت لي من قبل فقد كنت لا أراه إلا في مناسبات قليلة .

لكن أبي وأمي اقتنعا بهذه الفكرة وسعيا لتنفيذها إعجابا بأخلاقه واطمئنانا له ووسط أبي قريبا له لإقناعه بالتقدم لخطبتي. . فلم يتحمس

صديق أبي وأبدى تحفظه على فارق السن بيننا . . لكن أبي وأمي ألحا عليه في أن هذا الفارق لا قيمة له وأن المهم هو التوافق والانسجام وبتأثير إلحاحهما عليه استجاب للفكرة وتمت خطبتنا . . وفرحت به وتعلمت منه كل شئ في الحياة . . الكلام ومعاملة الناس و التسامح والحب وخلال خطبتي تقدمت لامتحان الثانوية العامة واعتبر خطيبي نفسه مسئولا عني فتكفل بنفقات الدراسة كلها ثم توفى أبي فجأة قبل زواجنا فوقف خطيبي إلى جوارنا في هذه المحنة وعوضني إلى حد كبير عن فقد أبي..وكان كريما وعطوفا معنا جميعا.وكان أبي قبل وفاته قد اتفق معه على تقسيم تكاليف الزواج بينهما من حيث التأثيث وغيره..فبادر خطيبي وبغير أن يطالبه أحد بإلغاء هذا الاتفاق وتحمل هو كل نفقات الجهاز والزواج وكل شئ ابتداء من بنسة الشعر إلى قطن التنجيد,وتم الزفاف . . وبدأت حياتي معه سعيدة بكل شئ . . وبعد عام أنجبت ولدا جميلا . . وبعده بعام آخر أنجبت طفلة أجمل . . وكبر الطفلان وبلغا مرحلة الحضانة فادخلهما زوجي مدرسة أجنبية راقية توسط له لديها مديره الأجنبي وأحسست أني أعيش أجمل أيام حياتي . . وأني أملك الكثير أفضل زوج . . أجمل شقة . . وأحلى الأبناء لكن ماذا بعد؟.هذا هو السؤال يا سيدي . . فرغم كل شئ فلقد كنت خائفة من المستقبل لا أعرف لماذا . . وبسبب الخوف الغامض ربما وجدت أمي عندي استعدادا نفسيا لقبول نصيحتها حين نصحتني بأن أعمل حسابا للزمن .. وان أحاول أن أتحصن ضد غدره بضمانات كثيرة. وكانت نصيحة أمي لى هى أن ادخر من زوجي أكبر مبلغ استطيع ادخاره إلى جانب أكبر كمية ممكنة من الهدايا الذهبية التي تعتبر مالا مخزونا. وبدأت اطلب من زوجي وهو يستجيب كرما منه وحسن نية . . اطلب وهو يستجيب وقدم لي ذهبا وادخارا والشقة التمليك التي نقيم فيها والتي كتبها باسمي استجابة لرغبتي. ثم بدأت معاملته تتغير معي . . وبدا يرفض الاستجابة لطلباتي وتغيرت معاملتي له أنا الأخرى وقصرت في أداء واجباتي الزوجية تجاهه وتدخلت أمي بيننا فقال لها انه لا يحب أن يبتزه أحد وان ما يجري معه من جانبي هو عملية ابتزاز لا يقبلها على نفسه وحدثت مشاكل كثيرة وتدخل الأصدقاء بيننا . . وتدخلت الشرطة . . ورفض أهله التدخل بيننا وتحولت الحكاية من جانبي على الأقل إلى صراع بين إرادتي وإرادته من يغلب منا الآخر . . ومن ينهزم . . ومن ينتصر؟

وكلما تدخل بيننا الوسطاء رفضت أن أتراجع أو أتنازل . . وأصررت على أن يخضع ويستجيب لكل مطالبي . . وكلما ازداد الصراع بيننا تمسكت بالعناد والإصرار على أن أهزمه وانتصر عليه وفي قمة المعركة فوجئت به يسلم بالهزيمة فجأة وبدون مقدمات . . وفي صمت ترك كل شئ وذهب . . كل شئ . . كل شئ حتى ملابسه وأوراقه تركها وطلقني وذهب ,وأحسست بنشوة الانتصار . .وأصبحت أمي في قمة السعادة . .وأكدت لي ان ما حدث كان هو الحل الأمثل لأنه كان سيتركني يوما ما . . وان الأفضل أن أؤمن مستقبلي مادامت النهاية واحدة ..

وبدأت المحاكم والقضايا بيننا للحصول على نفقة شهرية لي

ولأولادي . . وكان قد تركني ومعي مدخرات لا بأس بها وذهب وشقة تمليك وأثاث فاخر وكل الأجهزة . . وتوقعت ان أراه في أول جلسة للمحكمة . . فلم يحضر وإنما جاء محام موكل عنه حاول أن يتدخل بيننا بالصلح فرفضنا الصلح معه فحاول محاميه أن نتوصل فيما بيننا إلى اتفاق ودي حول النفقة الشهرية بغير حاجة للمحاكم فرفضت أمي لأن المحامي الموكل منا أكد لها انه سوف يحصل لنا على حكم بمبلغ كبير بعد أن قدم مستندات تفيد حصوله من الشركة الأجنبية على راتب خيالي . وواصلت النزاع معه أمام المحكمة فإذا بالمحكمة تحكم بمبلغ مائة وعشرين جنيها فقط كل شهر كنفقة شهرية وهو ما يساوي المبلغ الذي كنت احصل عليه منه كمصروف شخصي لى كل شهر إلى جانب مصروف البيت والأولاد ورضيت بذلك مضطرة , وتفرغت لأولادي . . ورفضت الزواج ومضت سنوات . . ثم توفيت أمي فرأيت زوجي السابق لأول مرة منذ طلاقنا . . فقد جاء وقدم لى العزاء وحضر كل المراسم وشهد العزاء ليلا ثم ذهب بعدها . . ولم يعد مرة أخرى

ومضت الأيام ووجدت نفسي وحيدة بعد أن ماتت أمي . . وسبقها

أبي . . ومعى طفلان صغيران . . وابتعد عني أقارب أمي . .فتساءلت أين أبو أطفالي . .ولماذا لا يعود إلينا . . ونداوي الجراح معا وننسى ما فات بعد أن تعلمت انه لا مال يغني عن الزوج والأب وأملت خيرا في مجيئه للعزاء في أمي وحاولت الاتصال به بعدها . . فلم انجح وحاولت الاتصال بوالدته وإخوته وطلبت منهم أن يتدخلوا لإعادة المياه إلى مجاريها بيننا فاعتذروا عن عدم التدخل لأنها مسألة شخصية تخصه هو وهكذا انقطع كل ما كان يربطني به . . إلا نفقات المدرسة للطفلين التي يدفعها كل سنة بغير أن يراهما. وفي سن التاسعة والعشرين فوجئت باني مصابة بضيق في شرايين القلب وفي حاجة إلى جراحة لتغيير ثلاثة شرايين وفي حاجة أشد لمن يكون بجانبي. فأرسلت الطفلين إلى زوجي السابق فأعادهما وأرسل إلى مع زميل له شيكا بكل نفقات الجراحة . . وعرض أن يسهل لي إجراءها في الخارج عن طريق سفارة الدولة التي تتبعها شركته إذا أردت ذلك . . لكنه مع كل ذلك رفض أى شئ عن الماضي ورفض مجرد التفكير في العودة إلى وقالها صريحة انى قد مت في نظره وإن كل ما يفعله معي هو من اجل أولاده فقط . . وانه لو كانت لهم مربية

واحتاجت لجراحة لتكفل بنفقاتها كما فعل معي إنني أرجوك . . وأتوسل إليك أن توجه له رسالة عبر بابك فأنا في

حاجة إليه وطفلاه في حاجة إليه. . وشفائي في عودته

 

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

 

من بين سطور رسالتك العديدة توقفت طويلا أمام سطر واحد تصفين فيه إحساسك حين سلم زوجك بالهزيمة في صراع الإرادات الذي فرضته عليه فغادر بيته وطفليه تاركا وراءه كل شئ حتى أوراقه وملابسه , فكتبت تقولين عن هذه اللحظة : وأحسست بنشوة الانتصار . . ! وكان الأحرى ان تقولي: وأحسست ب "نشوة الهزيمة" . لأن الانتصار الذي يؤدي إلى حرمان طفليك من أبيهما ومن رعايته وحنانه. . وحرمانك أنت من هذا الزوج المحب العطوف الكريم الشهم الذي لم يكن يرفض لك طلبا حتى ضاق بعملية الابتزاز المنظمة التي يتعرض لها ليس انتصارا و إنما هزيمة لك أنت في الحقيقة ولطفليك من قبلك ولكل قيم الوفاء والعدل في الحياة. فأي انتصار هذا يا سيدتي؟ لقد ظلمت زوجك ظلما بيناً . . وظلمت طفليك . . بل وظلمت نفسك ودمرت سعادتك بمحاولتك البشعة ابتزاز زوجك وحلبه بدعوى تأمين مستقبلك . . وهى (صرعة) تنتاب أحيانا بعض الزوجات فيدمرن حياتهن ويشردن أطفالهن ويسلمن حياتهن للخراب ويجدن أنفسهن بعد حين وحيدات ومسئولات عن أطفال صغار يحتاجون إلى رعاية الأب ويبحثن عن الأمان الذي هدمن حياتهن من أجله فلا يجدنه . . ويعرفن وقتها أن الأمان الحقيقي هو في الأسرة المستقرة ومع الزوج المحب. . وفي رعاية حدود الله , والثقة به وفي ألا يظلمن غيرهن لكيلا يظلمهن أحد وعسى أن يأمن غدر الزمان , وهذه هى وثيقة التأمين الحقيقية التي يستطيع كل إنسان ان يؤمن بها مستقبله ثم يرجو الله بعدها أن يحميه من تقلبات الأيام . . وبغيرها لا يفيد مال ولا عقار . . وقصتك وقصص غيرك خير دليل على ذلك والآن يا سيدتي تريدين بعد ان انفضت الدنيا من حولك وافتقدت الأمان الذي بحثت عنه , وهوجمت من الداخل و من الخارج أن يعود إليك زوجك وان يقف إلى جانبك في محنتك كما كان يفعل دائما . . حسنا انه لو شاء أن يضيف إلى سجله النبيل معك فضلا جديدا فيصفح الصفح الجميل ويضم ابنيه إلى أحضانه فليفعل ولن يكون ذلك مستغربا عليه بل لعله اقرب إلى طبيعته السمحاء أما إذا عجز عن الصفح بعدما لقى منك من سوء الجزاء على كل ما قدم لك ولأسرتك فلا أحد يستطيع أن يلومه على ذلك. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وعسى أن تمسح الأيام على جراحه فيكون أكثر استعدادا للنسيان في المستقبل . . وعليك أنت أن تثبتي جدارتك بصفحه ونسيانه بالندم الصادق المبرأ من الغرض على ما جرى . .وبتعلم درس التجربة الذي لا نتعلمه غالبا إلا بعد فوات الأوان . . وبحسن رعاية طفليك وتكريس حياتك لهما . . وبالصبر على ما تريدين إلى أن يذيب الزمن مرارة النفوس وبالكفاح الطويل لاستعادته ببعض الإصرار والعناد اللذين "كافحت" بهما من قبل لتحقيق ذلك الانتصار الموهوم عليه أما تصور انه سوف يعود لك مجرد انك أبديت هذه الرغبة الآن فهو تصور بعيد عن الواقع وعليك ان توطني نفسك على قبول ذلك . .وإلا فاختاري لمستقبلك 
  ما ترينه ملائما

 

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" في يناير عام 1990

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات