شريط كاسيت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984
وأمد يدي إلي رسالة منتفخة فأفتحها لأجد بداخلها شريط كاسيت على
أحد وجهيه موسيقى غربية حالمة.. أما على الوجه الآخر فأسمع هذه الكلمات:
لقد قررت أن أرسل إليك رسالة مسموعة لأن خطي وحش
ولأني أستطيع أن أعبر عن مشاعري هكذا أفضل.
أنا يا سيدي فتاة عمري 20 سنة وأعمل في وظيفة
أتقاضى عنها 100 جنية في الشهر إلى جانب السكن وهو غرفة مفروشة بأثاث جيد مكون من
سرير كبير نظيف ومائدة صغيرة أتناول عليها طعامي بالشوكة والسكين في مواعيد الوجبات ,
ودولاب يضم فساتيني ومصوغاتي وأحذيتي , ثم تليفزيون صغير أبيض وأسود وراديو كاسيت
أسمع منه الموسيقى وأميل إلى سماع الموسيقي الهادئة الغربية وعندي مجموعة من
الشرائط لمطربين عالميين أحبهم .
وفي عملي
فإني أتناول وجباتي كاملة على نفقة العمل وأنا فتاة مظهري كويس.. يقولون عني إني
جميلة ورشيقة "وشيك" جداّ في ملابسي بشهادة كل من يعرفني.
وقد تعلمت لكني لم أحصل على الإعدادية.. وأقرأ
جيدا وأقرأ بابك بانتظام.. لذلك كتبت إليك لأسألك عن رأيك في مشكلتي.. في المشكلة
العامة التي أمثلها.
المشكلة
أنني أحب عملي جدا وأحترمه جدا.. وأرى فيه نفسي. كما أن أصحاب العمل يحترمونني جدا
ويعاملونني معاملة طيبة جدا. لكن ما يعذبني هو أن "الناس" وخاصة الناس
"الشعبيين" منهم لا يحترمونني. ولا يحترمون عملي!.
فأنا
يا سيدي أعمل مربية في بيت وقد عملت في هذا العمل منذ 11 سنة وأحببته جدا وأنا
أنهض في الصباح سعيدة فأؤدي أعمال البيت بنشاط ثم أتولى إطعام الطفلة الصغيرة
الوحيدة .. وإعداد ملابسها ثم تخرج السيدة ربة البيت إلى عملها ويخرج رب البيت إلي
عمله.
ويصبح
البيت مملكتي فأدير شئونه وأتولى رعاية البنت وإطعامها طعام الغداء.. حتى يعود
الزوجان فيجدا البيت نظيفا مرتبا والطفلة نائمة في سريرها وهما يحبانني ويحترمانني
ويثنيان على عملي دائما ولي يوم أجازة كل أسبوع , وساعات عملي من 7 صباحا إلى 7
مساء وبعدها أنا حرة أستطيع أن أذهب إلى أي مكان وأستطيع المبيت في بيت شقيقتي
والعودة في الصباح , لكن ما يعذبني هو نظرة الطبقات الشعبية لهذا العمل أنني في
نظرهم خ.... أي هذه الكلمة الفظيعة التي لا أستطيع أن أنطقها والمكوجي والزبال
والبواب يعاملونني باستهتار عجيب مع أن رب البيت وكل أصدقائه وأقاربه يعاملونني
باحترام وعلى قدم المساواة.
وما يعذبني
أكثر أنني إذا تعرفت بأحد بفتاة أو بشاب عاملني في البداية باحترام لمظهري ولباقتي
ولبسي وجمال أساوري فإذا سألني ماذا تعملين.. وأجبته بصراحة لمحت آثار الصدمة في
عينيه.. ثم لا يلبث أن تتغير نظرته لي.. وغالبا ما يسرع بالفرار.. والعجيب أن هذا
الشباب الذي يحتقرني يكون ساكنا في شقة في المساكن الشعبية.. ولا يجد ثمن تذكرة
الأتوبيس لأن معاه دبلوم مثلا ولقد أسهم التليفزيون والإذاعة في رسم هذه الصورة
غير المحترمة لنا .
وأريد
منك أن تقول للناس إن هذه الصورة للشغالة التي تتدلع في الكلام وتقول. "حاضر
يا سيدي".. غير موجودة .. صدقني والله العظيم غير موجودة.. إنني والله العظيم
أفرض احترامي على الناس وتركت بيوتا عديدة بسبب هذا الاحترام.. لكني أسأل لماذا
يحاصرون من تعمل عملي بالنظرة الوحشية. وبعدم الاحترام ولماذا يرفض شاب فقير معاه
دبلوم وأهله ناس "بساط" خالص أن يتزوج من مربية فيها كل الصفات التي
يتمناها وتتقاضي راتباّ أضعاف راتبه لماذا المربية وحدها محرومة من حقها في أن
تذهب إلى الكوافير.. وفي أن تلبس ملابس شيك والله العظيم إن فيه مربيات بيتصرفوا
ويتكلموا كويس جدا ومتعلمين.. لكن بيحترموا عملهم وبيحبوه وأنا بحب عملي ولن أتركه أبداّ.. مهما قيل.. لكني أريدك أن
تشرح للناس الحقيقة لكي لا يحتقروا من تعمل في نفس عملي.
ويتوقف الشريط الغريب الذي نقلني فجأة إلى عالم جديد لم أتلق منه
من قبل أية رسالة. ويشدني في الشريط صوت صاحبة الرسالة المعبر والمختنق بالبكاء في
أكثر من موضع.. ثم اللهجة الراقية حقيقة بلا مبالغة في الحديث والكلمات المهذبة
التي تنطق بها صاحبة الرسالة. أما أول انطباعاتي عنه فهو أنه يثير مشكلة حقيقية من
مشكلات مجتمعنا.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
أنت يا
صديقتي على صواب.. ومجتمعنا على خطأ... لكنه خطأ في طريقه إلى الاختفاء يوما ما مع
انتشار الوعي بقيمة العمل الشريف مهما كان نوعه وعملك هو عمل شريف. وعمل مهم
وضروري.. ولعله أكثر فائدة من أعمال كثيرين ممن يرتدون البدل والبنطلونات.
فالتربية عمل مفيد وراق وضروري وأعمال البيت
أيضا أعمال ضرورية ومهمة وتزداد الحاجة إليها يوما بعد يوم, وعملك في المجتمعات
المتحضرة عمل شديد الاحترام وتؤجر عنه المربية بالساعة.. وتذهب إليه بسيارتها
الخاصة.. وتتمتع باحترام معارفها وأهلها وجيرانها.. وسوف نصل إلى هذا تدريجيا مع
الزمن ومع زيادة الوعي بقيمة العمل وبشرفه بدليل أن أصحاب الأعمال ومجتمعهم
يحترمونك ويحتاجون إليك في حين مازال الوعي أقل من ذلك في المجتمعات الأقل تعليما.
أما
قلقك من نظرة الشباب إليك فأنت محقة في ذلك وإن كنت واثقا من أن بعضهم يحسدك على
حياتك وراتبك لكنها في النهاية مشكلة ستحل مع الزمن.. كلما ازداد الإيمان بأن
الناس جميعا متساوون أمام الله يدخلون الدنيا عرايا ويغادرونها عراة وأنه لا فضل
لأحد على أحد إلا بدينه وخلقه وأهمية ما يقدمه للمجتمع من خدمات, فواصلي طريقك
وسوف تجدين شريك حياتك الذي يقدرك ويحترمك حين يأذن الله بذلك.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر