رحلة العودة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1987

 رحلة العودة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1987

ورغم أني لست من المتشائمين ولا ممن يرون مع الفيلسوف الألمانى المتشائم هيجل أن (الحياة موت مؤجل) .. فإني كثيراً ما أتذكر هذا البيت من الشعر العربى : 

يا راقد الليل مسرورا بأوله  

إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً!

وكثيراً ما أردده متأسياً فى شدائد الحياة المفاجئة كلما صدمتنا بآلامها القاسية على غير انتظار.

عبد الوهاب مطاوع


أكتب إليك هذه الرسالة ولا أعلم ماذا سيكون مصيرها ؟ لكنى أكتبها حتى ولو لم تجد لي إجابة شافية ، لعلي أحس براحة نفسية بعد أن أسجل خواطري وتساؤلاتي .

فأنا سيدة جامعية تخرجت فى كلية عملية، وعملت في إحدى شركات القطاع العام تقدم لخطبتي جار يقطن بجوارنا ويحمل نفس مؤهلي، وكان على خلق طيب فقبلته على الفور وتزوجنا، وبدأنا حياتنا الجديدة سعداء ثم رزقنا بطفلنا الأول بعد عام، وبطفلنا الثاني بعد عام آخر، واستدعى زوجي فى هذه الفترة للخدمة العسكرية كضابط احتياط ، فعرفت معنى الخوف لأول مرة فى حياتي حين تركني إلى خطوط القتال، لكن سنوات الحرب مضت بخيرها وشرها . وعاد زوجي إلى عمله بعد عام من انتهاء حرب أكتوبر وعاد الاطمئنان إلى حياتي مرة أخرى ومرت الأيام بنا هادئة لا ينغص صفونا شىء، نخرج في الصباح أنا وزوجي والأولاد فيذهب كل منا إلى طريقه ، فأذهب أنا إلى عملي ويذهب زوجي إلى عمله ، ونترك الأولاد في المدرسة ، ثم نلتقي مرة أخرى عند مدرسة الأولاد فنصطحبهما إلى البيت ، وفى المساء أنشغل أنا فى أعمال البيت وينشغل زوجي مع الأولاد فى مراجعة دروسهم ثم تنتهي الواجبات المدرسية ونستمتع بساعة من السمر البرىء والصفاء قبل النوم، وفى أيام العطلات نخرج إلى الحدائق أو إلى زيارة الأهل والأصدقاء ونمضي معظم وقتنا خارج البيت، ونعود في المساء وقد جددنا نشاطنا ونستعد لأسبوع جديد من العمل .

 

وبعد 9 سنوات من الزواج رزقت بطفلي الثالث ، وواجهت مشكلة رعايته وأنا سيدة عاملة، لكن زوجي خفف عنى كثيراً منها ، فكان يشترى كل ما يلزمنا من الخارج . ويساعدني في أعمال البيت ورعاية الأولاد ، وكنا قد استطعنا خلال هذه الفترة ادخار مبلغ صغير فاشترينا به سيارة مستعملة من أحد أصدقائنا فسهلت حياتنا ، وأعفتنا من المواصلات . ويسرت لنا زيارة الأهل وشراء ما نحتاج إليه، وقد ربطت الحياة بيني وبين زوجي بروابط عميقة زاد منها أنه كان حنوناً وعطوفاً ومن هذا النوع من الرجال الذين يجعلون هدف حياتهم إسعاد أسرهم .

 

وفى صباح يوم شتوي بارد في أوائل العام الماضي ، ذهبت إلى مقر عملي ودخلت من البوابة الرئيسية ، وبعد أن خطوت عدة خطوات داخل المصنع الذي أعمل به شعرت بألم شديد فى صدري، كأن سكيناً دخلت تحت جلدي وتمزقه بشدة فتوقفت فى مكاني ، ولم أستطع أن أخطو أية خطوة أخرى ، ورآني زميل واقفة عاجزة عن الحركة . فجاء منزعجاً وقال لى مالك يا بشمهندسة ، فأشرت له إلى صدري ولم أتكلم ، وجاء الزملاء فزعين وأحضروا سيارة أعادتني إلى بيتي ومعي خطاب بتحويلي إلى طبيب الشركة ، وعدت إلى البيت فاستلقيت على الفراش حتى جاء زوجي فى المساء وعرف ما جرى فاصطحبني إلى الطبيب الذى فحصني وقال باختصار ذبحة صدرية تحتاج إلى راحة تامة لمدة شهر، ولا تعرف كم انزعجنا حين سمعنا هذه الكلمات القاسية ، ولا كم حزن زوجي وتألم لى حتى أشفقت عليه والألم يهرى صدري ، لكننا امتثلنا لإرادة الله واستسلمت للفراش ، ومضت فترة الراحة وتحسنت حالتي وعدت إلى عملي ، ولكنى لم أستمر به أكثر من أسبوع وعاودني الألم مرة أخرى ، وحسم الأطباء الأمر بعد إجراء فحص بالمنظار وعرفت أن أحد الشرايين التاجية المغذية لعضلة القلب مسدود تماماً ، وأن أمامي الاختيار بين إجراء جراحة قد تنجح وقد لا تنجح كأي جراحة ، وبين الاستمرار فى العلاج بالعقاقير مدى الحياة مع الالتزام بالاعتدال فى المجهود ، وإلا عاودتني الآلام الرهيبة ، ورفض زوجي بإصرار إجراء الجراحة وألح على فى الحصول على أجازة مرضية من عملي واستجبت لمطلبه وحصلت على أجازة عدة شهور ، والتزمت الراحة والاعتدال فى كل شىء .

 

وتضاعف حنان زوجي ورعايته لي فلم يدع لى فرصة للقيام بأي عمل فى البيت ، وحاول دائماً أن يهون علي الأمر وأن يبث فى نفسي روح التفاؤل والأمل ، وأصبح يلازمني فى كل الأوقات التى يخلو فيها من العمل ، واستمتعت بصحبته فى هذه الفترة بأكثر مما استمتعت بها خلال السنوات الخمس عشرة التي تعاشرنا خلالها ، رغم مخاوف المرض أحسست كأنما عدنا إلى أيام شهر العسل واللفتات الرقيقة ، وتبادل النظرات ، والكلام بغير كلام ، والحنان الزائد فى كل لحظة ، ورضيت بكل ذلك وحملت لزوجي داخلي عرفاناً بكل ما يبذل من أجلى ومن أجل أولادي ، فلقد كان يزداد عطفاً علي كل يوم ، كأنه يخشى أن يخطفني أحد منه .

 

و ذات يوم في صيف العام الماضي حمل لى فيه زوجي معه مفاجأة سعيدة عندما عاد مبتسماً وسعيداً وأسرً لى وهو فى قمة الابتهاج أنه قد حجز لنا مكانين فى رحلة الحج لدى شركة سياحية لنؤدي الفريضة معاً .. ودهشت وقلت له إني تحت العلاج وقد لا أستطيع تحمل مشقة الحج ، فقال لى بل ستستطيعين بإذن الله وسيخفف الله عنك آلامك .. وسيعينك على أداء الفريضة ، وسنذهب إلى هناك لكي نطلب من الله الشفاء لك .

وتمت إجراءات الحج سريعة ، وودعنا الأطفال والأهل والأصدقاء .. وسافرنا والجميع يوصونه برعايتي ومنعي من بذل أي مجهود ، ومن التعرض للشمس فترة طويلة وهو يشكر الأصدقاء ويطمئنهم .

 

وسافرنا إلى الأراضي المقدسة وبناء على رغبته سافرنا إلى المدينة المنورة أولاً لنمضي بها ستة أيام قبل أن نبدأ مناسك الحج ، وأقمنا بفندق يطل مباشرة على الحرم النبوي ، وعشنا خمسة أيام كأنها من أيام الجنة نؤدي الفروض فى أوقاتها فى الحرم النبوي ونستمتع بالحديث معاً طوال الوقت ، وواصل زوجي رعايته لى فعمل على شراء كل ما يلزمنا للمعيشة من الأسواق لكيلا يحملني أي جهد فى هذه الفترة ، وفى فجر اليوم السادس صحونا قبيل الفجر لنستعد لأداء الصلاة فى المسجد وتوضأنا استعداداً للنزول ، لكنه أحس بشىء من الإرهاق فطلب مني أن أذهب وحدي لأداء الصلاة مع بقية الحجاج من زملاء وزميلات الرحلة لكيلا تفوتني فريضة فى المسجد النبوي ، وأصر على نزولي ، فودعته ونزلت للصلاة ، وبعدها عدت مسرعة إلى الفندق فذهبت أولاً إلى الغرفة التي تركت بها زوجي فوجدته مستلقياً على الأرض ، فقدرت أنه أراد أن يستريح قليلاً على أرض الغرفة التماساً لرطوبة الأرض فى الجو الحار كما يفعل الحجاج ، وقررت أن أدعه يستريح ساعة ثم أعود لأراه .. واستدرت لأترك الغرفة عائدة إلى غرفتي لكن شيئاً ما في صدري أوقفني ، فعدت إليه وناديته عدة مرات فلم يجبني فرفعت صوتي قليلاً يا حاج ، يا فلان ، لم يجبني فعدت أناديه بصوت أعلى .. ثم بصوت كالرعد ثم تنبهت فجأة إلى دموع من حولي تنساب فى صمت ، وكانوا قد عادوا من الصلاة وملأوا المكان ، وعرفوا الحقيقة وأنشأوا يتمتمون بآيات القرآن وأنا غائبة عن الوعي أنادى زوجي وحبيبي وعمري فلا يجيب ندائي لأول مرة منذ عرفته .

 

وجاء الطبيب وقال سكتة قلبية مفاجئة ، وقلت لله الأمر من قبل ومن بعد لكنى يا رب العليلة وهو الصحيح وقلبي مريض وقلبه لم يشك المرض يوماً ، وقد جاء بى إلى هذه البقعة الطاهرة ليطلب لي الشفاء وهو لا يدرى أنه الفراق ، لكنه قضاء الله ولا راد لقضائه .

ومضت المراسم الحزينة بطيئة ، وفى صلاة الظهر بالمسجد النبوي كان زوجي معى ، ولكنه جسد مسجى أمام قبر الرسول ( صل الله عليه وسلم ) هو الشاب الذى كان يتفجر حيوية ونشاطاً قبل ساعات ، أوصل الرفاق زوجي إلى البقيع ووري الثرى مع الصحابة والتابعين ، ورحلنا إلى مكة لنبدأ مناسك الحج ، وفى السيارة التى حملتنا من المدينة إلى مكة انفجرت دموعي لأول مرة تنعى زوجي وعمري وأبا أبنائي الطيب الطاهر الحنون ، وأحاط  بى ضيوف  الرحمن من زملاء الرحلة تختلط دموعهم بدموعي ويخففون عنى أحزانى ، ومضت أيام الحج وكتمت السر فى قلبى 26 يوماً حتى أؤخر الأحزان عن أهلي وأبنائي قدر ما أستطيع ، إلى أن جاء يوم العودة فأبرقت لأسرتي وأولادي بالنبأ الحزين .. وعدت إلى القاهرة فنزلت من باب الطائرة فى رحلة العودة وحدي أكفكف دموعي ، وكنت قد دخلتها من قبل فى رحلة الذهاب معتمدة على ذراع زوجي مبتهجة مستبشرة .

 

وواجهت مصيري .. وحاولت قدر جهدي التخفيف عن أطفالي بالحديث لهم عن فضل من يلقى الله فى الأرض الطاهرة ويدفن فى البقيع مع الصحابة والتابعين ، ومرت الأيام بطيئة كالحجر الثقيل حين يدفعه الإنسان المجهد ، ومضى عام على الذكرى الحزينة ، وواجهت الحياة بأعبائها وآلامها ، وقد ترك زوجي لى معاشاً لا بأس به ، وقد أصبح أكثر ما يقلقني الآن وأفكر فيه طويلا ً هو عملي فى الشركة ، فلقد حصلت على أجازة مرضية لعدة شهور بعد عودتي بسبب ظروفي الصحية والنفسية ، والجميع يقولون لى إن معاش زوجي وإن كان يكفى نفقات الأولاد الآن ، فإنهم سيكبرون وستزداد مطالبهم ولن يفي المعاش المحدود بها ، وأنى سوف أحتاج إلى راتبي بالشركة لذلك من الأفضل أن أعود لعملي ، وأبنائي زاد تعلقهم بى بعد ما جرى ويرون أن وجودي بينهم فيه محافظة عليهم وعلى صحتي ، وأنا الآن أقوم بواجباتي المنزلية ومتطلبات أولادي بالكاد ، وبمساعدة مستمرة من شقيقاتي وأمي ، وأفكر فى العودة للعمل لكنى أخشى أن يعرضني لمجهود جسماني وعصبي يؤثر على صحتي ، وأفكر فى تسوية معاشي لكنى لم أكمل المدة القانونية التى تعطيني الحق فى المعاش ، وحتى لو أكملتها فسأتقاضى الحد الأدنى للمعاش ولن يفي بما أنفقته حاليا على العلاج كل شهر .

 

 إني احترم رأيك فبماذا تشير علي أن أفعله لكي أحافظ على أبنائي وصحتي وحياتي .

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لست فى حاجة يا سيدتي لأن أكرر لك كلمات العزاء ولا الرضا بقضاء الله وقدره ، فلك من إيمانك ما يغنيك عن كل ذلك . لكنني رغم ذلك لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكر فى معنى الآية الكريمة التى تقول : (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) وأنا أجيب عن تساؤلك  فلقد ظلت تطن بأذني وأنا أقرأ الفصل الحزين من رسالتك ، وأحسست بحروفها تلح علي بأن أذكرك بها لكى تخرج بك من حيرتك ، ( فالموعد ) و( المكان ) مسجلان يا سيدتي فى اللوح المحفوظ من قبل أن يولد الإنسان ويدب بقدميه على الأرض . والمرض والصحة لا علاقة لهما بالأجل ولا يقدمان منه ساعة ولا يؤخران ، ولقد لمست كل ذلك بكل أسف فى تجربتك الأليمة .

 

ورغم أنى لست من المتشائمين ولا ممن يرون مع الفيلسوف الألماني المتشائم هيجل أن ( الحياة موت مؤجل ) فإني كثيراً ما أتذكر هذا البيت من الشعر العربي : يا راقد الليل مسرورا بأوله  .. إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً!

وكثيراً ما أردده متأسياً فى شدائد الحياة المفاجئة كلما صدمتنا بآلامها القاسية على غير انتظار ، لكن لنترك هذا الحديث الثقيل الآن ولنركز على حيرتك الراهنة بين العودة للعمل والتخلي عنه .. وفى هذا أقول لك يا سيدتي إن من الحكمة أن يوازن الإنسان بين ظروفه واحتياجاته ، وأن يستجيب لضرورات الحياة حين لا يكون هناك مفر منها ، وأنت فى تقديري سوف تحتاجين إلى راتبك خلال فترة قصيرة ، لذلك فلا معنى للاستقالة من العمل أو تسوية المعاش

الآن بل لا معنى أيضاً للتحسب من تأثير العمل على صحتك ، وأنت أصلاً مطالبة بالاعتدال فى المجهود وليس بعدم بذل أي جهد نهائياً ، لذلك فأنت تستطيعين العودة للعمل من الناحية الصحية بشرط الاعتدال فى كل شىء ، وقانون العمل يعيطك الحق فى ممارسة نوع من العمل الخفيف يتناسب مع صحتك ولا يؤثر عليها ، ولو لم يكن هناك هذا القانون لأعطاك قانون العدل والرحمة هذا الحق بلا جدال ، فلماذا لا تجربين العودة للعمل وبذل جهد مخفف فيه لكي تستفيدي براتب العمل وبميزات الرعاية الصحية التى يوفرها لك ، ولماذا لا تجربين أيضاً وفى حدود الاعتدال أن توازني بين ظروف عملك ورعاية أبنائك ولو إلى حين ، إلى أن تحسي بعدم القدرة على تحمل هذا العبء.

 

إنك فى رأيي أحق من كثيرين بالتخفيف عنك فى العمل ، من كثيرين يتمتعون بكامل صحتهم ، (ولا يزكون ) عنها ببذل أية قطرة عرق فى أعمالهم التى يتقاضون منها أجورهم بل و ( حوافزهم ) أيضاً ، وما أكثرهم فى مواقع القطاع العام الذى تعملين به .. وما أكثرهم فى مواقع أخرى كثيرة ، فلماذا لا تعتبرك شركتك ( واحداً ) من هؤلاء وأنت أحق بذلك والأجدر بسبب ظروفك الصحية ، إن مجموع راتبك حتى يبلغ سن المعاش لن يبلغ واحداً فى المائة مما تنفقه الإدارة العليا فى أية شركة عامة على رحلاتها الخارجية ومظاهرها الشكلية خلال سنة واحدة ، فلماذا ندقق دائماً مع المحتاجين والضعفاء .. ونغمض العيون عن إسراف بعض الكبار وإنفاقهم المظهري الذى يمكن أن يحل مشكلات عديدة لآخرين من أمثالك .

 

عودي إلى عملك يا سيدتي شكلياً لتستفيدي براتبك فى تأمين مستقبل أولادك وفى توفير علاجك ، ولك من ظروفك ما يبرر لك نقص جهدك وليكلأك الله برعايته .. ولتعوضك الحياة عمن فقدت خيراً وفضلاً.



 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

شارك في إعداد النص / ياسمين عرابي

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات