اللحظة الفاصلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995
من يضحى
بإعتباراته الشخصية من أجل أبنائه, إنما يفعل ذلك أساساً إستشعارا لمسئوليته عنهم
أمام خالقه وأداء لواجبه تجاههم وإحتراما لنفسه قبل كل شئ ,فإذا جوزي عن تضحيته
بما يستحقه من أبنائه فى المستقبل فخير وبركه..وإن لم يقدرها له أحد كما يشككنا فى
ذلك دعاة المنهج الفردي فى التفكير وطلب السعادة .. فلقد احتسب المضحون منذ البداية
أنفسهم وتضحياتهم عند ربهم.
عبد الوهاب مطاوع
أكتب إليك
رسالتي هذه انفعالا برسالة «التضحية المخيفة»، التي روت لك فيها زوجة محبة ومخلصة
عن صبرها على نزوات زوجها، إلى أن فوجئت به وقد تزوج سرا من سيدة تعرف بها قبل 4
شهور فقط وتركت زوجها المسن بعد زواج ۲۳ عاما وضحت بأبنائها
الشباب وحصلت على الطلاق لتتزوج من زوج كاتبة الرسالة زواجا عرفيا.
وأريد أن أقول
لك يا سيدي إنني لم أندهش لوقائع القصة نفسها فهي قد تحدث كثيرا في الحياة، لكني
اندهشت حقا لردك عليها الذي قلت فيه إن هذه السيدة التي تزوجت من زوج كاتبة الرسالة إنما كانت
تخطط منذ فترة بعيدة وقبل التقائها به للتخلص من زوجها، ووجدت في زوج كاتبة
الرسالة الحماية لها فحسمت أمرها مع زوجها وأقدمت على الخطوة التي كانت تدبر لها
منذ زمن طويل، وبالتالي فإن حبها لزوج كاتبة الرسالة الذي لا يزيد عمره عن شهور
ليس هو دافعها لهدم أسرتها.. وليس هناك إذن ما
يدعو زوج كاتبة الرسالة للتذرع
بعدم التخلي عنها بحجة هذه التضحية المزعومة من أجله !
وسر اندهاشی
لهذا الرد هو أنه صحيح فعلا ولا أعرف كيف توصلت إليه من تحليلك لوقائع القصة.. وقصتي
تؤكد أن الزوجة ذات الأبناء لا تحسم أمرها في طلب الطلاق بمثل هذه الرعونة وإنما
بعد تفكير طويل طويل، فأنا سيدة أبلغ من العمر 40 عاما وعلى قدر من الجمال
والرشاقة والأناقة يدفع الناس للاعتقاد بأني أصغر سنا من عمري الحقيقي وقد تزوجت
منذ ۲۳ عاما، أي وأنا في السابعة عشرة من عمری من رجل
يكبرنی بـ ۱۷ عاما . ولم يجبرني أحد على الزواج منه حين
تزوجته، وإنما كان هذا هو العرف السائد وقتها في أسرتي المحافظة، وهو أن يختار لنا
الأهل شركاء الحياة فلا نعترض على اختياراتهم مادامت في حدود المألوف.
وقد كان زوجي
حين ارتبطت به رغم فارق السن الكبير بيننا في مرحلة الشباب ولا يزيد عمره على 34
عاما، وإنما ظهرت المشكلة بسبب صغر سني بالقياس إليه.. وعلى أية حال فقد مضت حياتي
مع زوجي بعد الزواج في استقرار ولكن بدون سعادة حقيقية.. بل ومع كثير من
المعاناة.. فلقد كان باختصار إنسانا فاشلا في حياته بكل ما تحمله هذه الكلمة من
معان، وكانت له نزواته النسائية العديدة وأضاع الكثير من ثروته فيها وفي تخبطه وفشله حتى
لم يعد قادرا على الإنفاق على أسرته كما ينبغي، وفي مقابل ذلك كنت أتظاهر دائما
بالاستقرار في حياتي الزوجية وأعوض نقصه المادي، إلى أن صدمني بإهانة قاسية أسقطته
من نظری کر جل وكانت هذه الإهانة موضوع رسالة نشرت في بريدك منذ حوالي عامين، ورغم
ذلك فلقد تحاملت على نفسي .. وسويت أموري معه وحافظت على استمرار الحياة لا حبا
فيه.. ولا من أجل أبنائی کما تتصور، وإنما خوفا من أسرتي و من نظرة المجتمع إلى
كمطلقة.. ومن نظرة أولادي أنفسهم لى كأم حرمتهم من الاستقرار العائلي ذات يوم، إلى
أن بلغت «كوارثه» ذروتها بإصابته بالعجز الذي يدفعه لمحاولة إثبات العكس، فتحولت
حياتي إلى جحيم حقیقی .
ونظرا لأني
إنسانة متدينة ولا أطيق فكرة الخيانة الزوجية أو أقبل بها، فلقد ازداد تفكيري في
طلب الطلاق منه بعد کوارثه الأخيرة ولم أقل بدأ تفكيري فيه ؛ لأنه كان قد بدأ منذ
فترة طويلة بالفعل وتركزت آمالي في أن أبدأ حياتي من جديد مع إنسان أرمل أو مطلق
منذ فترة لكيلا أكون سببا في هدم أسرة أخرى.. وأيضا لكي أبدأ حياتي مع إنسان محترم
غير خائن لزوجته.
وهكذا صممت على الحصول على
الطلاق حتى لا أخون نفسي أو زوجي ولكي أفتح الطريق أمامي للالتقاء ذات يوم بمثل
هذا الإنسان
المحترم الذي
لا يسمح لنفسه بأن يتطلع إلى زوجة رجل آخر، وبدأت أمهد الطريق لطلاقي القريب لدى
إخوتي وأمي وزوجي .. وبدأت أتحدث أمامهم كثيرا عن أن الطلاق ليس في كل الأحوال
كارثة عائلية يضيع بسببها الأبناء.. بل إن هناك أسرا كثيرة انفصل فيها الأبوان،
ومع ذلك فلقد سارت الحياة بالأبناء إلى شاطىء الأمان ولم يفشلوا في دراساتهم،
وكررت نغمة هذا الحديث مرارا وفي مناسبات مختلفة حتى بدأ زوجي يستشعر الخوف وعدم
الأمان معي ويترقب انفجار الموقف ومطالبتي له بالطلاق في أية لحظة .
وحزمت أمري
واستقر رأیی نهائيا على طلب الطلاق وحددت الموعد الذي سأعلن فيه زوجی به والخطوات
التي سأتخذها لتنفيذه والتفسير الذي سأقدمه لأبنائی ولأهلي عنه.. ثم حدث حادث بسيط
أثار اضطرابي وترتبت عليه نتائج بعيدة الأثر.. فلقد دعينا لحضور حفل زفاف إحدى
قريباتنا وذهبنا جميعا أنا وزوجي وأولادي إلى الزفاف.. فإذا بي أنظر إلى قريبتي
هذه في فستان زفافها وحولها أبوها وأمها وهما فرحان بها وسعيدان للغاية وهي سعيدة
بوجودهما حولها وتستشعر الشرف والأمان في قربها منهما في هذا اليوم، فأسرح بأفکاري
بعيدا وأقارن بين حال أولادي إذا ما تركت أباهم الآن وبين موقف هذه القريبة التي
تنعم في هذه اللحظة بفرحة أمها وأبيها اللذين يشرفانها أمام الجميع، وإذا بي أضطرب نفسيا وأستشعر
ضرورة وجود الأبوين في هذا اليوم إلى جوار أبنائهما ليشرفاهم أمام الجميع ويفرحا
به معهم، فلا أدري کیف عدلت فجأة عن فكرة الطلاق التي استولت على تفکیري ومشاعري
طوال الشهور الماضية، ولا أدري كيف تبخرت هذه الفكرة في لحظات وأنا في حفل الزفاف
فقررت الرضا بحیاتی التعيسة مع زوجي من أجل أبنائی، بل ووجدت نفسي في هذه اللحظة
أبحث عن زوجي في الفرح وأجلس إلى جواره، وقد كنت في العادة أجلس في مكان بعيد عنه
.
ومنذ ذلك
اليوم عدلت عن الحديث عن الأسر التي انفصل الأبوان فيها ولم يفشل أبناؤها.. وبدأت
أشعر زوجي بالأمان من ناحيتي بعد أن كان خائفا ويترقب قراري بالانفصال في أية لحظة
..
ولست أزعم بعد ذلك أنني سعيدة في
حياتي .. لكني أقول لك فقط إنني قد ترکت نفسي لليأس والألم من أجل من أتيت بهم إلى
الحياة، ومن حقهم علي أن أقف إلى جوارهم في رحلتهم معها .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
الفرق بين
الذاتية وانحصار تفكير الإنسان في ذاته وما يتعلق بها من اعتبارات ورغبات حتى ولو
كانت عادلة في بعض الأحيان وبين الغيرية
والتضحية واتساع قلب الإنسان لهمه بالآخرين إلى جوار همه بنفسه، هو بالضبط الفارق بين حالك قبل حفل
الزفاف هذا وحالك بعده !
فقبل هذا
الحفل كنت قد حسمت هذا الصراع الطويل الذي دار في أعماقك بين تطلعك للسعادة
الشخصية، وهمك بمسئوليتك عن أبنائك، لصالح اعتباراتك الشخصية، ولم تبق إلا لحظة
الانفجار .
وكعادة
الإنسان حين يحسم صراعا في أعماقه لصالح اختيار معين يترتب عليه شقاء غيره به،
فإنه يحاول دائما وبطريقة لا إرادية أن يقنع نفسه أولا «بعدالة» هذا الاختيار
وبأنه لم يظلم به أحدا .. وبأنه حتى لو شقی به أعزاؤه فإن شقاءهم به لن يكون مؤثرا
على مسيرتهم في
الحياة ! .. كأنما يريد بذلك أن
يتخفف من إحساسه بالذنب تجاه ضحايا اختياره الوشيك وأن يشجع نفسه عليه.
وهكذا فعلت أنت
يا سيدتي حين حسمت الاختيار داخلك في البداية لصالحك "کامرأة" جميلة في
الأربعين من عمرها ومن حقها بعدما عانته من خيانة وحرمان مع زوجها أن تتطلع لحياة
أخرى جديدة مع رجل آخر .
فماذا غير من
حالك خلال تلك اللحظات الفاصلة التي رأيت
فيها هذه
العروس الشابة سعيدة بأبويها وأبواها سعيدان بها في ليلة زفافها؟!
لقد حدث لك
شيء هام وجوهري يقطع بأنك من أصحاب القلوب الحكيمة والضمائر الحية.. فلقد ذكرك هذا
المشهد.. وفي لحظة تنویر ثمينة بأنك لست فقط امرأة جميلة في الأربعين من عمرها
لكنك أيضا - وهو الأهم - «أم» لأبناء وبنات لا ذنب لهم في اختيارك لزوجك ولا في
نزواته وتخبطه في الحياة وإسرافه على نفسه، ومن حقهم رغم كل ذلك أن يسعدوا بالحياة
وبمثل هذه المناسبة العزيزة بين أبويهم كما يفعل كل الأبناء .
لقد أثبتت لك
هذه اللحظة السحرية أنك لست من تلك النوعية من البشر التي تستطيع أن تسعد بحياتها
الشخصية بعيدة عن أبنائها، وأن تفكيرك في تغيير حياتك وطلب سعادتك مهما طال فلقد
كان مجرد سباحة قصيرة في بحر الفردية وأحلام السعادة الشخصية الذي لا تقوين على
مغالبة أمواجه، فأعادك مشهد حفل الزفاف على الفور إلى شاطىء الأمومة والعطاء
والتضحية من أجل الأبناء والتحمل والتصبر على أنواء الحياة .. كأنما كانت سباحتك في هذا
البحر العاصف - بحر الفردية والتفكير الذاتي - نوعا من أحلام اليقظة التي يتعزى بها التعساء والمهمومون عن تعاستهم
حين تضيق الصدور بما تعاني ثم لا يلبثون أن يفيقوا منها بعد قليل على واقعهم الأليم،
ويزفرون متصبرين مع الإمام الشهيد الحسين بن على : «عند الله نحتسب أنفسنا»،
ويواصلون طريق التضحية والتحمل من أجل الأبناء بلا نهاية وبلا رجاء أو انتظار لثمن
لتضحياتهم.
ولا عجب في
ذلك فمن يضحي باعتباراته الشخصية من أجل أبنائه، إنما يفعل ذلك أساسا استشعارا لمسئوليته
عنهم أمام خالقه وأداء لواجبه تجاههم واحتراما لنفسه قبل كل شيء، فإذا جوزي عن
تضحيته بما يستحقه من أبنائه في المستقبل فخير وبركة.. وإن لم يقدرها له أحد کما
يشككنا في ذلك دعاة المنهج الفردي في التفكير وطلب السعادة.. فلقد احتسب المضحون
منذ البداية أنفسهم وتضحياتهم عند ربهم .. والعاقبة للصابرين !
ومنطق التضحية
من البداية ضد منطق المقايضة وانتظار الثمن .
فهنيئا لك اختيارك النبيل يا
سيدتي في لحظة التنوير الثمينة هذه، فلقد قدمت به لأبنائك وللحياة ذلك الشيء "الزائد"
عن العدل الذي لا تستقيم الحياة بغيره، وهو "الفضل" الذي يملي على
الفضلاء أن يترفقوا بأبنائهم ويؤثروهم على أنفسهم، ولولا هذا الفضل لانهارت
بيوت عديدة
ولفقد أبناء كثيرون مظلاتهم الواقية التي يحتمون تحتها من أعاصير الحياة .
فآه لو يعرف لك زوجك قيمة هذا العطاء له ولأبنائه، ويحاول أن يعوضك عنه وعن كل ما فعل بك من قبل .. وآه لو يعرف الأبناء كم يتحمل بعض الآباء والأمهات من عناء وآلام لكيلا يحرموهم من تلك المظلات الواقية فيقدروا لهم هذا العطاء وهذه التضحيات .. وشكرا لك على رسالتك المفيدة .
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر