الابتسامة العريضة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 

الابتسامة العريضة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

الابتسامة العريضة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995


لقد ألقت علينا كاتبة هذه الرسالة درسا جديدا في الإحساس بالمسؤولية الإنسانية والنهوض بها بعفوية لا تتردد أمام الأعذار القهرية المألوفة التي تتقافز على الشفاه حين تطلب منا التضحيات لأداء الواجب العائلي والإنساني أو حين ينتظرها منا من لا يشفي جراحهم أي دواء إذا افتقدوا لدينا هذا العطاء.

عبد الوهاب مطاوع


أرجو أن تصلك رسالتي هذه وأنت علی خیر ما يرام إن شاء الله .. فأنا يا سيدي فتاء عمري 31 عاما .. وقد توفي أبي منذ 17 عاما تاركا وراءه ابنة وحيدة عمرها 14 عاما وزوجة طيبة  لا حول لها ولا قوة هي أمي الحبيبة وحين مات أبي کنت ادرس بالمدرسة الثانوية التجارية واحرص على النجاح في دراستي لإسعاد أبي وأمي وإرضاء لطموحي وأحلامي في أن أصبح ذات يوم إنسانة ناجحة في الحياة، ثم جاء رحيل أبي عن الحياة فزلزل حیاتي أنا وأمي وهددنا بالخطر .. وبعد فترة من وفاة أبي خيرني صاحب العمل بين أن أحل محل والدي في عمله وبين أن اخلی السكن الذی نقيم فيه لأنه من ملحقات هذا العمل .. ولم أتردد لحظة واحدة في القبول مع تمسكي باستمراري في المدرسة التجارية .

 

وهكذا أصبحت "بوابة" العمارة التي نسكن فيها بدلا من أبي رحمه الله .. أو حارستها كما كنت أحب أن أقول تمييزا لنفسي كتلميذة مجتهدة من غيري .. وشكرت صاحب العمارة الذي قدر ظروفنا ولم يفضل استئجار رجل  يقوم بهذا العمل بعد أبي .. ومارست عملی كحارسة للعمارة باجتهاد کبیر والحمد لله كانت لي غرفة صغيرة اجلس فيها للحراسة بمدخل لعمارة ، واضع فيها مائدة صغيرة أذاكر عليها دروسي .. وكنت بحمد الله موضع احترام سكان العمارة الكرام وكانوا يعاملوننی كابنة لهم .. وليس كحارسة للعمارة ويسألونني دائما عن دراستي ويشجعوني على الاستنكار .

 

وحصلت بتوفيق الله على الدبلوم التجاري بمجموع كبير مكنني من الالتحاق بكلية التجارة وسط دهشة كثيرين وإعجابهم بتفوقي .. وبدأت حياتي كطالبة جامعية مجتهدة مع استمرار في القيام بعملي كحارسة وازداد تشجيع سكان العمارة لي وكان من بينهم خالة الأستاذ الفاضل الكاتب والأديب .. وهو من أصدقائك كما أسمع وتستطيع أن تسأله عني وكان يزور خالته من حين لآخر فيمر علي في غرفتي كل مرة ویرانی وأذاكر دروسي فيشجعني ويعطيني ما تجود به نفسه لتشجيعي علی الاستمرار في كفاحي .. يلح علي في القبول ، وذات يوم جاءت إلى العمارة حرم مستشار کبیر بوزارة العدل وهي سيدة فاضلة وعطوف فسألتني عن أحوالي في الدراسة وقدرتي على مواجهة أعباء الحياة والدراسة بدخلي المحدود وعلمت بسوء أحوالي المادية  فعرضت علي أن تساعدني على العمل بمؤهلي المتوسط في وزارة العدل إلى أن أتخرج في كليتي .. ووفت السيدة الفاضلة بما وعدت وتم تعييني بالوزارة وأنا طالبة بالجامعة ، وأصبحت اذهب إلى عملي الحكومي كل صباح .. واذهب إلى كليتي في بعض الأيام عند العصر لأحضر بعض المحاضرات واستعير ما فاتني منها ثم ارجع إلى غرفتي في مدخل العمارة في المساء لأذاكر وأؤدي واجبي وكنت سعيدة بعملي الحكومی وعملي الأساسي بالعمارة  وابتسامة أمي العريضة تحيط بي في كل لحظة .. وابتهاجها بكل خطوة حققتها يسعدني ويرضيني لولا شيء واحد كان ينغص علي حياتي ويغض مضجعي .

 

 فقد كان بالعمارة بعض الشقق المغلقة والخالية من سكانها للسفر إلى الخارج، وكنت اخشی دائما لتعرض أحداها للسرقة خلال غياب أصحابها ما يعرضنی للمسئولية الجنائية والبهدلة في أقسام الشرطة والنيابة .. وكلما قرأت في الصحف عن حادث کسر شقة أو حادث قتل خلال السرقة فزعت وعجزت عن النوم معظم الليل خوفا من أن يحدث ذلك في العمارة التي احرسها وتستجوبني الشرطة وتصبح فضيحة كبيرة لي في الجامعة في عملي الحكومي فتركز كل أملي فی أن نجد أنا وأمي سكنا متواضعا يغنيني عن تحمل مسؤولية حراسة هذه العمارة ، وسعیت بكل جهدي بعد أن توافرت لي بعض المدخرات القليلة من مرتبي الحكومي ومرتبي من العمارة إلى البحث من شقة صغيرة في أي مكان لأعيش فيه مع أمي وأكتفي بعملي كموظفة حكومية .

 

ووفقني الله في استئجار مسکن صغير بعمارة أحد المعارف الطيبين الذي يعلم جيدا بظروفي ولم يطلب مني الكثير وتركت العمل بالعمارة وانتقلت أنا ووالدتي إلى الشقة الصغيرة .. ونمت لأول مره منذ مات أبي ملء جفوني دون قلق ولا خوف تحت سقف هذه الشقة.

وواصلت دراستي الجامعية بنجاح والحمد لله وجملت مسكني الصغير بأقصى ما تسمح به امکانیاتي المحدودة ..وحصلت على بكالوريوس التجارة وتفرغت لعملي الحكومي وكان يوم نجاحي یوم عيد لأمي فلم أرها قبله أو بعده وهي بهذه السعادة والاعتزاز بي.

 

وذات يوم كنت في زيارة احدی صديقاتي فرآني أحد أقاربها وهو شاب يدرس بأحد المعاهد وعرض علي الزواج وتقدم لوالدتي لخطبتي بعد أن أكد لي أنه يعرف قصتي كاملة ومعجب بكفاحي المرير والتزامي الديني ، وصارحته بكل ظروفي وقلت له إنني فتاة يتيمة وابنة وحيدة ولا أب لي ولا أخوة ولست أريد منه شينا سوى الاستقامة والمحافظة علي .. أما المهر والذهب وغير ذلك فإنها أشياء من عرض الدنيا الزائل .. ولا تعنيني في شيء إذا لم تتوافر .. ووعدني هو بأن يحافظ علي وأن يكون أمينا معي ، وبأن يحضر أهله لمقابلة والدتي.

 

وحمدت الله كثيرا على توفيقه ورعايته .. وواصلت حياتي انتظارا لليوم الذي يستطيع فيه خطيبي أن يحضر أهله ونبدأ في إجراءات الزواج .

ثم ذهبت لعملي ذات يوم في الصباح ورجعت إلى البيت في موعدي المعتاد في الثالثة والنصف بعد الظهر ، فضغطت الجرس رغم وجود المفتاح معي .. وتأهبت أن تستقبلني أمي بالقبلات والابتسامة العريضة كعادتها كل يوم .. لكن الباب لم يفتح ولم تستجيب للجرس .. وانخلع قلبي ورحت ابحث في لهوجة وارتباك عن مفتاحي في حقيبتي إلى أن وجدته وفتحت الباب وأنا منقبضة الصدر ومتوجسة .. فإذا بي أرى أمي الحبيبة الطيبة ممددة على ارض الصالة وهي في أسوأ حال وعلى حافة الغيبوبة والذهول وكدت أسقط بجوارها .. لولا أنها قالت لي بلسان ثقيل وكلمات متقطعة أنها في مكانها هذا من العاشرة صباحا.

 

فتمالكت نفسي بصعوبة وهرولت وأنا ابكي بغزارة لاستدعاء الطبيب .. وجاء وطلب بعد فحصها إجراء أشعة مقطعية على المخ وكشفت النتيجة عن إصابتها بعدة جلطات في المخ ، ونصحني بنقلها على الفور إلى مستشفى قصر العيني واستدعيت سيارة إسعاف ونقلتها للمستشفي وتدهورت حالتها حتى دخلت في غيبوبة ولم تعد تدري بما حولها .. ووجدتني لن أستطيع رعايتها کما أريد وبما يطمئن قلبي عليها وأنا اذهب إلى عملي الحكومي كل يوم فقدمت على بطلب إجازة بدون مرتب وتفرغت تماما لرعاية أمي في المستشفى ليلا ونهارا ، وبعد شهر من وجودنا به طلب الطبيب من جميع المرضى مغادرة العنبر نظرا لوجود امتحانات عملية لطلاب كلية الطب واعترضت على ذلك وسألته كيف تخرج أمي وهي لا تستطيع النهوض من فراشها .. فطلب مني إحضار سيارة إسعاف لنقلها إلى منزلها ولا داعي لإدخالها أي مستشفى آخر لأن حالتها قد استقرت على هذا النحو ولا توجد بوادر للتحسن كما أن المستشفى ليس به سيارة إسعاف.

 


ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

 

سيكون لأمك الطيبة المكافحة ما تريدين لها من رقابة طبية كاملة إلى أن يكتب لها الله الشفاء من مرضها بإذن الله ، فترجع الابتسامة العريضة إلي وجهها من جديد ، وتضيف إلى اعتزازها القديم بكفاحك النبيل في الحياة اعتزازها الآخر الأهم بحبك العظيم لها وبرك النبيل لها .

أما أنت يا آنستي فأي تقصير يمكن أن تتهمي به نفسك في حق أمك وأنت التي انقطعت لرعايتها وملازمتها ليلا ونهارا منذ سقوطها مريضة وحتى الآن وأي لوم يمكن أن توجهيه لنفسك في ذلك وأنت التي ضحيت بمرتبك من عملك وهو موردك الوحيد لكي تتفرغي لتمريضها وللسهر على راحتها ؟

لا يا آنستي لا لوم عليك ولا ملام .. فلقد ألقيت علينا درسا جديدا في الإحساس بالمسؤولية الإنسانية والنهوض بها بعفوية لا تتردد أمام الأعذار القهرية المألوفة التي تتقافز على الشفاه حين تطلب منا التضحيات لأداء الواجب العائلي والإنساني أو حين ينتظرها منا من لا يشفي جراحهم أي دواء إذا افتقدوا لدينا هذا العطاء.


والمشاعر الحقيقية إنما تمتحن حقا بالعطاء والتضحيات في وقت المحن وليس بالكلمات الرقيقة العاطفية في أوقات الصفاء .. فما أسهل "الإنشاد" العاطفي في أوقات الهناء وما أصعب العطاء والتضحية على البعض في أوقات العناء .. إذ يواجه المرء فيها دائما موقف الاختيار بين ما يحقق صالحه الشخصي هو ولو على حساب عناء الأعزاء الآخرين .. وبين صالح هؤلاء الآخرين وراحتهم على حساب عنائه الشخصي هو.

فإذا اختار العناء للآخرين مفضلا صالحه عليهم .. فآلاف الكلمات الرقيقة لا تترجم لمحة حب حقيقية من جانبه لهم وإذا رجح راحتهم وما يحقق مصالحهم على حساب عناءه الشخصي .. فهذا هو الحب النبيل الصادق حقا والذي يحق من ناله أن يعتز به ويزهو، وهذا هو أيضا ما قدمته أنت لأمك الطيبة بتصرفك التلقائي معها حين مرضت.

 

 والإنسان في النهاية هو ما یفعله .. وليس ما يقوله .. على حد تعبير المفكر الفرنسي اندريه مالرلو في مذكراته ..  فإذا كانت امکاناتك المادية قد قصرت بعد ذلك عن توفير الرعاية الطبية اللازمة لها كما تریدين فلم تكن تلك مسئوليتك، وإنما كانت مسئولية هذا المجتمع كله الذي أصبحت تكاليف العلاج الخاص به محنة اشد وطأة على من يختبرون بالمرض من محنة المرض نفسه في كثير من الأحيان.

ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها في النهاية يا آنستي .. فاتصلي بی مساء غد وتفاءلي خيرا بإذن الله .. فان من لم يضيعك سبحانه وتعالى وأنت فتاة صغيرة يتيمة في الرابعة عشرة من عمرها لن يضيعك الآن ولن يخذلك بعد أن قاد خطاك وسط دروب الحياة الصعبة إلى كل ما حققت لنفسك من نجاح في الحياة إن شاء الله.

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات