الخيوط الحريرية .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1989
منذ أن
وعيت على الدنيا لم أعرف لي أما ولا أبا ولا عائلة .. وإنما سمعت الجميع يقولون
أنه كان لي بيت وأب وأم ككل الأطفال ثم انهار البيت على من فيه فلم ينج من أهله
سواي وعمري عامان فضمني بعض الجيران إليهم ونشأت بينهم وقمت بخدمتهم وألحقوني
بالمدرسة حتى بلغت الثانية عشرة من عمري .. ثم وجدت نفسي مرة أخرى وحيدا تماما في ظروف لا
أحب أن أتذكرها ..فخرجت إلى الحياة صبيا وأمضيت الليالي نائما بلا غطاء في مستودع
للأخشاب وفي الصباح أذهب إلى مدرستي ثم أعود فيها إلى العمل ومضت بي الحياة هكذا
أنتقل من عمل إلى عمل .. وأكسب رزقي ..وأذاكر دروسي وأؤدي امتحاناتي وأنا وحيد
تماما في الحياة كشجرة نبتت خطأ في الصحراء القاحلة إلى أن التحقت بكلية التجارة
وبلغت من العمر العشرين .. ومازلت أواصل دراستي بنجاح ..وأكسب ما يكفي متطلبات
حياتي البسيطة ونفقات تعليمي ومظهري كطالب جامعي ..ثم بدأت تلح علي منذ شهور أمنية
طالما تخيلتها في أحلام اليقظة وتجسدت لي في أحلام الليل كأنها واقع جميل .
فلقد
تمنيت دائما يا سيدي ومنذ كنت في سن الثانية عشرة أن يكون لي أم توقظني في الصباح
لأذهب إلى المدرسة .. وتصنع لي بعضا من الساندويتشات وتنهرني لأشرب كوب اللبن
..فأشربه متأففا من مذاقه الذي لا أحبه , ثم أحمل كتبي وأودعها وأذهب إلى مدرستي
نشيطا مبتهجا , وأعود إليها في الظهر فأجدها في انتظاري لتسألني عما فعلت في يومي
وأروي لها عما أسعدني أو ضايقني من زملائي أو من المدرسين .. وأتناول طعام الغداء الذي
صنعته لي بيديها .. وأنتظر كوب الشاي لأشربه ثم أبدأ مذاكرتي لدروسي وعندما يتقدم
الليل أجلس إلى جوارها لأشاهد معها برامج التلفزيون وأرجوها كل ليلة أن تدعني أسهر
هذه المرة بعض الوقت مع وعدي بأني سأصحو في موعدي .. فترفض بإصرار ..وتدفعني دفعا إلى
فراشي بمزيج من الحنان والحزم وتغطيني في ليالي الشتاء .. وأحس بدفء أنفاسها وأنا
نائم كلما جاءت لتحكم وضع الغطاء حولي .
وأتمادى في أحلامي فأراها في ليالي الامتحان تسهر بجواري وتودعني بدعواتها في الصباح وتنتظرني بلهفة عند العودة وتفرح وتزغرد البهجة في وجهها حين أزف إليها خبر نجاحي فلقد نجحت مرارا وتكرارا يا سيدي فلم أجد من أبلغه خبر النجاح .. ولا من أعود إليه بالخبر وأنا أتوقع أن أسعده به .. وكنت أعود من المدرسة وقد علمت بنجاحي إلى عملي فلا أنطق بحرف عنه ولا يسألني أحد عن النتيجة إلا مصادفة وبعد ظهورها بأسابيع , إنني لا أعرف لماذا تلح علي هذه الخواطر الآن فأتذكر فجأة أني لم أقل لأحد أبدا طوال حياتي يا أمي أو يا أبي أو يا أخي ولا أعرف لماذا اشتدت حاجتي العاطفية الملحة هذه وأنا في سن العشرين إلى أم تحنو بل تقسو علي أيضا من أجل مصلحتي في حين أن بعض زملائي يضيقون بقيود آبائهم وأمهاتهم ..ويتمنون أن يكونوا " أحرارا" من هذه القيود .
أهكذا
الدنيا دائما يا سيدي تعطي البعض ما لا يحسون بقيمته .. وتحرم البعض مما يكونون
أكثر الناس إدراكا لقيمته !
إنني
أسمع هذه الشكوى وأتعجب لأنني "أتمتع" بهذه الحرية اللعينة منذ صباي
وأتمنى من كل قلبي لو استبدل الله قيودا عائلية حبيبة بها .. لكن ماذا أقول أكثر
من أن إرادة الله فوق الجميع دائما .. إنني أكتب إليك لأطلب منك طلبا قد يبدو
غريبا لكنه لا يعرف أهميته إلا من عاش مثل ظروفي .. إنني أريد أمَّا تهتم بأمري و
"تشخط" في إذا رأت في سلوكي ما لا ترضاه لي .. وان كان سلوكي –والحمد
لله – قويما لأني تحملت مسئولية حياتي منذ صغري فلم أجد وقتا للعبث فهل تستطيع
مساعدتي في تحقيق هذا الطلب .. إنني لا أريد منها أية مسئولية مادية عني لأني أعمل
وأتكفل بنفقات حياتي وإنما أطمع منها فقط في الرعاية الروحية والعاطفية لمن كتبت
عليه الأقدار أن يحرم منها فهل يمكن أن أجد من تتبناني روحيا وتسمح لي بزيارتها من
حين إلى آخر..
وتتابع
تقدمي في دراستي .. وتفكر معي في اختيار شريكة حياتي في المستقبل وتسمح لي
بأن أنتسب إليها وأن أدعوها أمام الآخرين ولو مرة واحدة في عمري " يا أمي
" ؟
لقد
قرأت في بعض الرسائل عن أمهات يشكين من انشغال أبنائهن عنهن بحياتهم وأنا لا شيء
يشغلني عن الاهتمام بأم فهل يمكن أن يتحقق هذا الأمل .. أم ترى أني قد استسلمت
لأحلام اليقظة حتى أفسدت علي تقديري للأمور ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
لا يا صديقي لم تسرف في
أحلامك .. ولم يختل تقديرك بل عبرت "بصدق يؤلم" عن آفة الإنسان الذي قال
عنه شكسبير في رائعته هاملت أن العادة تخلق عنده أحيانا الشعور بالاستخفاف فلا
يعرف للأشياء قيمتها الحقيقة ما دامت متاحة له وفي متناول يده ومن حقائق حياته ..
ورسالتك تصور هذا الخطأ البشري أصدق تصوير وأنت تتحدث عمن يضيقون بقيود الأهل
الحريرية غير مدركين أنها قيود مجدولة من خيوط الاهتمام الإنساني الذي يفتقده
آخرون ..وإن هذا الاهتمام ميزة يتمتعون بها وليس "ألما" يشكون منه
..فالإنسان يحتاج دائما إلى من يهتم بأمره خاصة في سن الصبا والشباب فعسى أن تنزل
رسالتك المؤلمة هذه ماء باردا فوق رءوس من لا يفهمون دوافع هذا الاهتمام .. ولا
يقدرنه حق قدره وعسى أن أستطيع أن أحقق لك ما تتصوره حلما من أحلام اليقظة فما
أكثر من يسعدهم الاهتمام بأمر شاب محروم مثلك .. وما أكثر من يرون فيه عبادة وقربى
لله وتعويضا لهم عن جراح الحياة الدامية .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر