قرأت لك في ردودك على رسائل قرائك أن الإنسان لديه
ميل غريزي للرثاء لنفسه, ولقد كانت هذه هي المرة الأولى التي أقرأ فيها عنه,
فتوقفت أفكر في أمري وأتساءل هل يكون ما أشعر به وشعرت به معظم فترات حياتي, هو
من أثر هذا الميل الغريزي؟
ولكي تعنيني على الإجابة على هذا السؤال أريد أن أروي لك قصتي مع
الحياة, فأقول لك إني شاب أبلغ من العمر الآن 33 عاما, حرمت من حنان الأم
وأنا طفل صغير عمره 4 سنوات, وكان والدي وقتها مازال طالبا ويقيم معظم السنة
في المدينة البعيدة حيث يدرس ولا يرجع إلى زوجته وطفله إلا في شهور الإجازة
الصيفية فلا يبقى لي حضن طوال العام سوى حضن أمي, ووجدتني وأنا في هذه السن
الصغيرة قد حرمت منه, وعجز عقلي الصغير عن فهم سبب غيابها عني غير أن الأطفال
الذين لا يحترسون لكلماتهم تولوا مصارحتي بالحقيقة المريرة وهي أنها قد ماتت ولن
ترجع مرة أخرى أبدا .
ولست أذكر الآن كيف تقبل عقلي وقتها هذه الحقيقة
المؤلمة, لكني أذكر أن مسئوليتي قد انتقلت بعد غياب أمي, إلى جدتي وأنها قد
عوضتني بعطفها عن حنان أمي المفقود فتعلقت بها بشدة وتمتعت في كنفها بالحب
والرعاية والحنان, إلى أن رجعت من مدرستي ذات يوم وأنا تلميذ في السنة الخامسة
الابتدائية فشهدت حركة مريبة في البيت وسمعت نواحا وصراخا .. ورأيت شقيقتي تبكي فأدركت
بحاستي أن أسرتنا قد شهدت حادث غياب جديد وصرخت هلعا حين عرفت أن جدتي قد تركتني
هي الأخرى.
وتلفت حولي ابحث عن أم أخرى لي .. فوجدت شقيقتي الكبرى التي لم
تتجاوز السابعة عشرة من عمرها وتزوجت بالرغم من صغر سنها قبل شهور, تحتضني وتقوم
عني مقام الأم بالرغم من اعتلال صحتها بسبب الحمل المبكر, فأحببتها كما أحببت من
قبل أمي وجدتي, ودعوت ربي أن يهبها الصحة وطول العمر لكي أنعم برعايتها للنهاية
ثم حانت ساعة ولادتها وذهبت إليها في العيادة لأزورها وأترقب مجئ مولودها إلى
الحياة, فإذا بولادتها تتعسر وإذا بها تلفظ أنفاسها الأخيرة خلالها, وإذا بي
ابتلي بفقد الأم من جديد وانتقلت رعايتي بعد ذلك إلى السيدة التي تزوجها أبي وكانت
لم تنجب منه بعد فكانت على خلاف الشائع في أوساطنا عن زوجة الأب, أما رحيمة لي
وتقدم نفسها للآخرين على أنها أم فلان أي أمي ثم أنجبت طفلا فأصرت على التمسك
بتسميتها الأولى, مؤكدة للجميع أنني ابنها البكري, وفي كنف هذه السيدة الطيبة
تمتعت بالحنان والعطف الصادقين غير أن عمر السعادة لا يطول كثيرا في حياتي يا سيدي
فلقد فقدتها هي الأخرى بعد بضع سنوات, ورحلت عن الحياة صغيرة وبكيتها بدموع
سخينة وتمنيت لو كانت زوجة أب قاسية لكيلا يوجعني فراقها كما أوجعني.
أما أنا فإنه
تحيرني عدة أسئلة آمل أن أجد لديك الإجابة عليها الأول هو هل تراني محقا في الشعور
ببعض الرثاء للنفس من واقع ظروف حياتي أم هل ترى ذلك من أثر هذا الميل الغريزي لدى
الإنسان ؟.. والثاني هو إذا كان الإنسان مؤمنا ويؤدي فرائض دينه على أكمل وجه
فلماذا يبتلى بمثل هذا العذاب وألا يحتمل أن يهز ذلك من إيمانه؟
أما السؤال الأخير فهو لو قدر لي الزواج ذات يوم ترى هل ستدور الدائرة
من جديد على أبنائي فيعانون مما عانيت منه.. أم أن أقدارهم ستكون ارحم بهم من أقداري؟
ولكاتب
هذه الرسالة أقول :
الحياة تسير دائما سواء
رضينا عن أقدارنا فيها أم سخطنا عليها, ولا خيار أمامنا سوى اللحاق بركبها
ومداواة جراحنا ومحاولة التواؤم مع ظروفنا وأقدارنا, لأن القافلة لا تنتظر ـ
المتخلفين عنها, ولا عائد لنا من التجمد أمام الأكدار سوى مضاعفة الخسائر,
واتساع الشقة بيننا وبين الركب المتجه دوما إلى غايته.
ولا عزاء لنا سوى أن نتمسك دائما بالإيمان بالله والرضا بقضائه وقدره
خيره وشره, وبالأمل الدائم في أن يكون الغد الآتي أفضل من الأمس المنقضي, وسوى
أن نردد دوما مع الإمام الشافعي رضي الله عنه:
دع الأيام تفعل ما تشاء
وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولقد كان من دعاء خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز:
اللهم رضني بقضائك, وبارك في قدرك, حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا
تأخير ما عجلت!
وقد ضرب لنا المثل الأعظم في الرضا بقضاء ربه وقدره, حين ثكل ابنه
التقي الورع عبد الملك وفاضت روحه وهو بين ذراعية, فبكاه عمر حتى ابتلت لحيته,
ولم ير في ذلك بأسا لعلمه بأن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه قد بكي لموت
ولده إبراهيم ولم يقل ما يغضب ربه, فما أن غادر عمر حجرة ابنه مطأطئ الرأس كسير
القلب وجاءه الناس يعزونه حتى كان قد تمالك نفسه من جديد فقال لمن يعزونه.
ـ أمر قد رضيه الله لي فلا أكرهه.
ومن بعد الرضا, بالأقدار يجئ الأمل دوما, في الغد الأفضل وتعويض
السماء, فإذا كنت تسألني بعد ذلك عن مشروعية .. إحساسك ببعض الرثاء لنفسك بعد
كل ما عانيت من حرمان من حنان الأم, وفقد متكرر للأمهات البديلات, وبصمات
العناء علي سمعك وبصرك ولسانك وكبدك, فأني أجيبك بأن الرثاء للنفس عن حق, كما
في مثل ظروفك المؤلمة, لا يتعارض مع الرضاء بأقدار الإنسان في الحياة, والقبول
بها, وإنما هي لحظات عابرة يستسلم فيها المرء لإحساسه بالإشفاق على نفسه مما
يكدره ويتوجه فيها بالأمل في رحمة الله أن تعوضه السماء عما عاناه آلام وأحزان
جزاء وفاقا لما صبر عليه من أحزان الحياة, ولا بأس بذلك من حين لآخر كلما اشتدت
معاناة الإنسان, وكلما كانت أحزانه وآلامه حقيقية وليست, موصومة ولا مبالغا
فيها, فمن حق المحزون أن تدمع عيناه يا صديقي رثاء لنفسه وترويحا عما يختزنه
صدره من هموم وأملا في رحمة ارحم الراحمين سبحانه, بغير أن ينقص ذلك من رضاه وإيمانه
بربه وتسليمه بأقداره فللنفس طاقتها في النهاية على الاحتمال .
وما اختبارات الحياة سوى ممن يمتحن بها السماء
صبر المؤمنين وتقبلهم لما تجني به إليهم أقدارهم, وقد أعيا سؤالك عن حكمة
الابتلاء ذوي الألباب منذ قديم الزمان, ولم ينقذهم من حيرتهم إزاءها سوى التسليم
المطلق بقضاء الله وقدره, وإسلام الوجه لله, والرضا بكل ما تحمله إليهم أمواج
الحياة, والتعزي في ذلك بمضمون الحديث الشريف الذي يقول عنها انه ما من شوكة
تصيب المؤمن إلا ويمحو بها الله من سيئاته أو يرفع بها من درجاته.
وبقوله سبحانه وتعالى في الآية214 من سورة البقرة:
أَمْ
حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا
إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
وبقول النبي داود عليه
السلام: لله الحكمة.. ولنا الألم.
أي أن له جل شأنه حكمته التي تخفي عن الإفهام فيما يقدره علينا من أقدار
ولنا نحن ظاهرها البادي من الألم .. وهو خير لنا في الآخرة إن كنا من الصابرين.
فما يزداد المؤمنون باختبارات الحياة ومحنها إلا إيمانا, وطمعا في
حسن جزاء الصابرين عند ربهم.
فأما سؤالك هل إذا تزوجت فسوف تدور الدائرة على أبنائك فيعانون مثل ما
عانيت أنت فعلم ذلك عند ربك سبحانه وتعالى وحده.. غير أن الرجاء في رحمة الله لا
ينقطع أبدا والله جل شأنه عند حسن ظن عبده به, كما جاء في مضمون الحديث القدسي.
ولقد وجدت أنت من إيمانك بربك ورضاك بأقدارك ما لم يحجب عنك بعض
الجوانب المضيئة في حياتك فتحدثت عن توفيقك في الدراسة والعمل, فلم لا تتوقع أن
تتسع مساحة هذه الجوانب المضيئة في حياتك وأن يعوضك ربك عن معاناتك بالتوفيق في
الزواج.. والسعادة بالأبناء الأصحاء الناجحين في الحياة بإذن الله؟
إننا ندعو
الله دائما أن تكون حظوظ أبنائنا في الحياة أفضل من حظوظنا نحن فيها, وان تجنبهم
عناية السماء أشواك الطريق التي أدمت أقدامنا, خلال رحلة الحياة .. فلماذا لا
تأمل انت أيضا في ذلك!.. وتستبشر به إن شاء الله؟
رابط رسالة السنوات الجميلة تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 1999
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر