شجرة الحرمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994


شجرة الحرمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

شجرة الحرمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

إنه من المؤسف حقا أن يضاف إلى الأسر التي نسميها "الأسر ذات الأب الواحد" نتيجة لوفاة أحد الأبوين .. أسر أخرى لم يمت عائلها لكنه تخلى عن أفرادها
 عبد الوهاب مطاوع

 


أنا شاب عمري ۲۵ سنة تخرجت من كلية عملية مرموقة ولي أختان تصغراني في السن وقد نشأت في أسرة طبيعية بين أبوين طبيعيين.. لكني لم اعرف منهما أنا وشقيقتان للأسف سوى طرف واحد فقط هو أمي.

فأمي هي التي تنفق علينا وتتحمل مسئوليتنا المادية وهي المسئولة عن البيت ولها القرار الأول والأخير وأنا أحبها كثيرا وأقدر لها ما تبذله من أجلنا فهي مربية فاضلة وخريجة كلية مرموقة وقد ربتنا على الحب والتفاهم والعطف المتبادل. وكانت لنا نعم الأم التي عوضتنا عن افتقاد الأب، وقد تصور من ذلك يا سيدي أننا أيتام فقدنا الأب في الصغر.. أو أن أبي انفصل عن أمي وهجرنا فعشنا معها وكرست حياتها لنا.. لكن الحقيقة أن شيئا من ذلك لم يحدث.. فأبي على قيد الحياة والحمد لله ولم ينفصل عن أمي يوما واحدا منذ تزوجا وإنما يعيش معنا في نفس البيت لكنه الغائب الحاضر دائما في كل ما يتعلق بمسئوليته عنا وقد يئست أمي من محاولة تغييره منذ زمن طويل فسلمت بما جرت به المقادير ونهضت لتحمل مسئوليتا المادية والنفسية والاجتماعية كاملة كما لو كانت أرملة أو مطلقة. أما أبي وأرجو ألا تغضب مني لما سأرويه لك عنه أو تتهمني بالعقوق فلقد عاش لنفسه فقط ومنذ اليوم الأول لإنجابنا بل أنه لم يعش حتى لنفسه لأنه بخيل إلى درجة لا يتخيلها العقل. ويحب النقود حبا جما وبخله ينعكس على كل شيء في حياته من مظهره إلى بيته إلى طعامه وحتى إلى كلامه ويحرمه من كل متع الدنيا وقد عاش عمره كله وهو مهندس ومالك لأراض كبيرة ومزرعة في الريف وسيارة وعمارة من ۱۰ ادوار في وسط المدينة يجمع القرش وراء القرش ويكوم الجنيهات ثم يودعها البنوك.. ويتعمد توزيعها على عدد كبير منها حتى إذا أفلس بنك منها لم يفقد كل نقوده دفعة واحدة.

 

ويبدو أنه اتفق مع أمي منذ سنوات بعيدة على أن يعطيها مبلغا سنويا كبيرا، لشراء ملابسها وملابسنا الصيفية والشتوية، وملابس المدارس أي لکسوة العام كله إلى جانب احتياجات المدارس ومطالبنا الأخرى.. فهل تعرف كم يبلغ هذا المبلغ السنوي الكبيرة إنه خمسون جنيها فقط لا غير.. أي والله العظيم خمسون جنيها "جنيه ينطح جنيه" .. وليست خمسمائة ولا خمسة آلاف ولا اعرف كيف توصلت معه أمي إلى هذا الرقم الجبار الذي يعتقد أبي إلى الآن أنه كاف جدأ لشراء ملابس شاب وفتاتين طوال السنة! وقد ظل هذا المبلغ المهول ثابتا ثبات الجبال الرواسي منذ عشرين سنة إلى الآن.. أو لعله كان عشرين أو ثلاثين جنيها ونجحت أمي بعد كفاح رهيب معه في إقناعه بمراعاة نسبة التضخم وارتفاع الأسعار.. فزاده قليلا.

 

 والحق إني لا اعرف حقيقة ذلك.. لكني أعرف فقط أن مصاريف مدارسنا كان جدي لأمي يدفعها لنا كل سنة من جيبه الخاص وكذلك نفقاتي واحتياجاتي خلال الدراسة وأبي سعيد بذلك وراض كل الرضا، كما أعرف أيضا أنني لا اذكر طوال سنوات طفولتي ودراستي حتى تخرجت وعملت أنني تناولت ذات يوم طعامي في بيتنا وشبعت شبعا تاما من الطعام لأن كمياته كانت دائما قليلة جدا كالعينات في بيتنا وحتى صرت في بعض الأحيان حين كبرت أتناول وجباتي الثلاث مع أصدقائي في الشارع وتقلق أمي لغيابي الطويل عن البيت .. أما أبي فلا يقلق بل يسعد بأن أغيب عن مواعيد الطعام وليته مع كل ذلك الحرمان كان رفيقا بأمي.. أو يقدر لها ما فعلته وما تحملته من أجلنا بل كان دائما كثير الشجار معها ويصل الأمر أحيانا إلى مد يده إليها بالضرب والسبب الخالد دائما لكل شجار هو إنفاق «القرش» في غير موضعها فحتى التليفزيون حرمنا أبي من مشاهدته معظم سنوات عمرنا توفيرا للكهرباء.

 

ورغم أن مثل هذه النشأة ينبغي أن تثمر أبناء غير أسوياء فلقد نشأنا طبيعيين والحمد لله نحب بعضنا البعض ونحب الآخرين ولا نبخل بما في أيدينا على أحد والفضل في ذلك لأمي وحدها .. بل لقد وجدت نفسي كأي شاب طبیعي أحب زميلة لي بالكلية بإخلاص وتحبني بنفس الدرجة وصارحت أمي بمشاعري تجاهها ورغبتي في الارتباط بها، لأني لا أتحدث مع أبي في أي شأن من شئوني ولو فعلت لما وجدت منه سوى اللوم والتقريع والجفاء وقد رحبت أمي بمشروع خطبتي لفتاتي، وأصبحت المشكلة هي تدبير قيمة الشبكة والمهر والشقة وهي مهمة مستحيلة إذا اعتمدت على مرتبي وحده الذي لا يزيد عن مائة جنيه انفق منها على نفسي من مأكل ومشرب وملبس لأن أبي كما قلت لك لا يساهم في نفقات أبنائه الثلاثة سوى بالخمسين السنوية إياها. وقد قامت أمي ببيع قطعة ذهبية أهداها لها جدي الذي رحل عن الحياة منذ عام رحمه الله، وتم تدبير قيمة الشبكة، وتقديمها.. وتقبلت أسرة فتاتي ظروفي التي يعلمون بها جيدا وأكدت لنا أنها لا تهتم سوى بأن أكون رجلا يسعد ابنتها ويعتمد عليه.

 

وهذا موقف كريم من أسرة فتاتي أقدره لها واحترمها من أجله ولكن إلى متى استطيع الاعتماد علی کرم أسرة فتاتي وسوف يجيء يوم بالضرورة تطالبني فيه بالوفاء بالتزاماتي في المهر والشقة وهذا من حقهم.

 لقد رفض أبي بالطبع مساعدتي في زواجی بأي شیء كأني لست ابنه وهو ليس أبي وكثرت مشاجراته وعدوانيته وسبابه وخلافاته مع أمي على الموضوع الأزلي.. وهو النقود.

 

وإذا كان رفض أبي لمساعدتي في زواجي وهو الثرى القادر الذي تتراكم أمواله في البنوك مصيبة، فالمصيبة الأشد هي أنه قد أعلن أيضا رفضه أن يجهز شقيقتي عندما تتزوجان في المستقبل ويقول إن كل شخص مسئول عنه نفسه، ومادام بصحة جيدة فليعمل كل واحد ولينفق على نفسه ويتزوج !

 وقد قرر أنهما لابد أن تعملا بعد حصولهما على الثانوية العامة لتساعدا نفسيهما خلال الدراسة الجامعية، ربما لكي يسد علي أي باب للأمل في إمكانية أن يساهم في مشروع زواجي بقرش واحد.

 



 كما أرجو أن تشكر عني أمي المربية الفاضلة سندي الوحيد في الحياة والتي كانت لي أبا وأما منذ تفتحت عيناي للدنيا وشكرا .

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

إذا تجاوزت عن عباراتك القاسية عن مشاعرك تجاه أبيك وعدم احترامك له، فإني أقول لك أنني لو سودت كل انهار الصحف في مناشدة أبيك أن يعدل عن موقفه من الحياة ومن أسرته ومنك.. فلن يجدي ذلك شيئا للأسف. لأن البخل إلى هذه الدرجة المخجلة داء لا دواء له إلا التعايش مع المصابين به، وتدبير أمور الحياة بعيدا عن مشاركتهم.. وهذا ما تنبهت له والدتك المربية الفاضلة بحكمتها منذ أمد بعيد فيئست تماما من محاولة الإصلاح.. ورضيت منه بالمبلغ الهزلي السنوي وأكملت نقصه بإنفاقها على أسرتها وأولادها وبطلب مساعدة أبيها لها في تحمل أقدارها. ولولا هذا لتهدمت هذه الأسرة منذ زمن بعيد، ولو حدث ذلك لما لامها أحد عليه لأن الامتناع عن الإنفاق على الزوجة والأبناء وبما يتناسب مع قدرة الزوج وثرائه من مبررات الطلاق المشروعة وفقا للمبدأ الفقهي المعروف "إما إنفاق وإما طلاق".. لكن والدتك اختارت حماية أبنائها من مخاطر انفصال الأبوين ولو جاء ذلك على حساب حقوقها وصحتها وراحتها، ولا شك أنك محق في احترامها والاعتراف لها بفضلها وهذا هو الثمن العادل للتضحية

وتحمل الأمانة عن الأسرة والأبناء. أما والدك فلا أمل فيه للأسف، إذ أي أمل يرجی فیمن ارتضى لنفسه أن يكون ضيف شرف في حياة أبنائه وأسرته، وترك الحياة فيها تدور حول محور آخر غير محوره وهو الراعي المسئول أمام ربه عن رعيته وسعد أيما سعادة بتحمل زوجته للمسئولية المادية والنفسية والاجتماعية عن أبنائه كأنما قد أنجبتهم وحدها ورضي كل الرضا عن قيام أبيها بدفع مصروفات أبنائه الدراسية عاما بعد عام وهو الثرى القادر الذي يوزع ودائعه على البنوك المختلفة خوفا من إفلاس أحدها .. إنه صادق فعلا من قال أن البخل الفاضح عجز نفسي عن العطاء حتى للذات.. واختلال شبه عقلي في تقييم الأشياء يفقد صاحبه الحكمة والصواب في أحكامه واختياراته .. إذ كيف يصبح للمال قيمة وهو مجمد في أوراق نقدية صماء لا تغني ولا تشبع من جوع وصاحبه محروم من كل ما يستطيع المال شراءه.. وأبناؤه يشتهون الشبع في بيته وابنه الوحيد يعجز عن إعفاف نفسه وتحقيق أحلامه المشروعة في الحب والزواج وأبوه قادر على أن يعينه على ذلك بلا عناء؟

 

وأي حكمة في أن يختار الإنسان لنفسه وبإرادته أن تكون حياته عقبة كأداء في طريق استمتاع أعزائه بحقهم المشروع في الحياة فيربط نفسيا لديهم بين استمرار بقائه على قيد الحياة وبين استمرار معاناتهم ويزاوج لديهم بين انفراج كل أزماتهم وزوال معاناتهم وبين اختفائه من الحياة فكأنما يجمع لغيره ويكدس لمن سوف تتغير حياتهم إلى الأفضل بعد رحيله؟ إن العقلاء وحدهم هم الذين لا يرضون لأنفسهم بهذا الاختيار.. والآباء والأمهات كما قلت مرارا ليسوا مسئولين فقط عن إعالة أبنائهم وإنما عن سعادتهم أيضا والأب القادر مسئول شرعا عن مساعدة ابنه في إعفاف نفسه بالزواج، وتخليه عن أداء هذا الواجب معه إثم يحاسب عنه أمام ربه.. بل إن الحديث الشريف يقول لنا أن هذا الابن الذي تخلى أبوه القادر عن مساعدته في زواجه، إذا أصاب إثما فإن بعض هذا الإثم على أبيه الذي لم يعنه على أمره ضنا بماله عليه .. أما شقيقاتك اللتان أعلن أبوك عزمه على ألا يساعدهما عند الزواج وعن ضرورة أن تعملا بعد الثانوية العامة لتساعدا نفسيهما في التعليم الجامعي فلست أعرف إلى أی المذاهب قد استند أبوك في هذا الإعلان الحكيم، فإذا كان الفقهاء يسقطون عن الأب نفقة الابن الواجبة متى أصبح قادرا على الكسب ويحيلون استمراره في الانفاق عليه إلى عاطفة الأبوة وحدها وليس التكليف فإن هذا التكليف نفسه لا يسقط عن الأب بالنسبة للإناث من أبنائه حتى ولو أصبحن قادرات على الكسب والعمل إلا بدخولهن في عصمة أزواجهن وانتقالهن إلى بيوت الزوجية ويعود هذا التكليف إلى عنقه تاما وشاملا إذا عدن إلى بيته مطلقات حتى يتزوجن مرة أخرى.. فمن أين يستمد أبوك أحكامه العجيبة هذه؟

إنه من المؤسف حقا أن يضاف إلى الأسر التي نسميها "الأسر ذات الأب الواحد" نتيجة لوفاة أحد الأبوين.. أسر أخرى لم يمت عائلها لكنه تخلى عن أفرادها إن الحديث مع أبيك لا يجدي شيئا.. لهذا فلا مفر أمامك من أن تركز كل جهدك على والدتك الفاضلة لمساعدتك بكل ما تملك يداها وعلى أن تدخر كل ما تستطيع ادخاره من مرتبك المحدود وتعمل عملا إضافيا يوفر لك قطرات جديدة مما سوف تحتاج إليه لإتمام مشروعك.. فلربما.. ربما رق لك قلب أبيك حين يراك تكدح وتعمل ليلا ونهارا لتبني عش زواجك، فيقرر كما يفضل الحكماء أن يكون له ابن يحبه ويحترمه ويدعو له صادقا بطول العمر بدلا من ابن يحمل له هذه المشاعر السلبية الكريهة التي لا تثمر شجرة الحرمان بلا منطق ولا ضرورة سواها وسوى ثمار أخرى لا تقل عنها مرارة.


نشرت عام 1994 بجريدة الأهرام
نقلها وراجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات