مادة العقوق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
خلال الأسابيع الأخيرة يا سيدي كثيرا ما لمحت في كتاباتك ببريد الجمعة إلى علاقة الأبناء بالآباء والصورة المثلي لما ينبغي أن تكون علية العلاقة بينهم وهذا جميل ومشكور لك بكل تأكيد لما فيه من إعلاء للمعاني السامية والقيم الدينية لكن أليست هناك توصية واضحة وبنفس الحرارة والعمق أيضا للآباء لكي يساعدوا أبناءهم على البر بهم وعدم استفزازهم بشكل واضح للخطأ في حقهم. إنني أقول ذلك وأمامي نماذج يصنع فيها بعض الأباء لأبنائهم "مادة العقوق" بإيديهم إذا جاز هذا التعبير بل ولا أتحامل أو أغالي إذا قلت أن جزءا كبيراً من أخطاء بعض الأبناء ولا أقول عقوقهم هو من صنع أبائهم ..وإلا فماذا تقول في أب متعلم وجامعي يسب زوجته أم أبنائه بيا بنت كذا وكذا أمام أولادهما وأصغرهم عمره 24سنه؟ وماذا تقول في أب يسب أبناءه بأبشع السباب واللعنات عليهم لأتفه الأسباب ويذيع أسرارهم لزملائهم وأقاربهم عن أدق شئونهم الشخصية إيجابية كانت أم سلبية وكل هذا إلى جانب تعمده إهمال مظهره وعدم العناية به عمدا للزراية بهم وتحقيرهم أمام قرنائهم والسلوكيات غير المهذبة العديدة التي تصدر عنه في بيته وعدا ذلك كثير وكثير .ألست معي في أن الحياة قد أصبحت أكثر تعقيدا وصعوبة من أن يحتمل معها الأبناء ضغطا عصبيا متواصلا من آباء من هذا النوع.
أو لا يكفيهم أن الأبناء يحاسبون بذنوبهم وأخطائهم لكي يحاسبوا أيضا بأخطاء أمثال
هؤلاء الآباء وذنوبهم .. إنني أرجع بعض أسباب هذه المشكلة إلى أن هذا العصر عاشوا
شبابهم في الأربعينات والخمسينات حين كان تأثر السلوك الشخصي بالدين ضعيفا.
فأرجو أن تذكر هؤلاء الآباء بالحديث الشريف الذي يقول "رحم الله إمرءا أعان ولده على بره" وبأن الأبناء ليسوا عقارا موروثا يملكونه ويحق لهم أن يفعلوا به ما يشاءون بلا حساب وأطلب منهم ألا يستعيق هؤلاء الآباء أبناءهم بإضاعة هيبتهم أمامهم بالإهتمام الشديد بالتفاهات وبالضغط العصبي المتواصل عليهم بالسب واللعن كل ساعة لأنهم بشر ولهم أعصاب وقدوة على الإحتمال لا يستطيعون تجاوزها في النهاية وإلا فلا تلوموهم إذا إنهار إحتمالهم بالضغط الشديد المستمر عليهم أرجو أن تذكرهم بذلك كما تذكرنا دائما ولك الشكر علي ذلك بحقوق الأباء والأمهات علي الأبناء وشكرا.
ولكـــاتب هــذه الرسالة أقـــول:
لا أتجاوز فيما تشير إليه من
تذكير للأبناء بحقوق الآباء والأمهات عليهم وتكرار ذلك كلما اقتضت الحاجة فهذا هو
منهج التنزيل الحكيم نفسه في هذا الأمر.
فقد أوصى الله سبحانه وتعالى في
كتابه الحكيم..الأبناء بأمهاتهم وآبائهم في أكثر من موضع وقرن بين الإحسان
للوالدين وبين عدم الشرك بالله أعظاما لحقوق الآباء والأمهات , فإذا كان لم يشر إلى
حقوق الأبناء عليهم فإنما لأن رحمة الأبوين بأبنائهم هي فطرة إنسانية تتمكن من
النفوس وتتعمق إلى مستوى الغريزة البشرية, فكأنما يقول لنا بذلك أنها قضية بديهية
لا تحتاج إلى تدليل .وفي علم المنطق فإن القضية البديهية هي القضية واضحة البرهان
التي لا تحتاج إلى دليل .وبالتالي فإن التدليل على ما لا يحتاج إلي تدليل يدخل في
باب التزيد.
وبالرغم من كل ذلك فلعلي أحسب
أني قد نبهت مرارا إلى حقيقة تختلط على أذهان بعض الآباء والأمهات الذين يسرفون في
الحديث عن حقوقهم على أبنائهم وينسون أو يتجاهلون حقوق هؤلاء الأبناء عليهم فأشرت
إلى أن أمثال هؤلاء الآباء والأمهات يتصورون جهلا بدينهم أن الله سبحانه وتعالى
إنما يحاسب الأبناء على عقوقهم ولا يحاسب الأباء والأمهات على ما يسيئون به إلى
أبنائهم .. وهذا وهم غريب تدحضه حقيقة الدين بل لعلي أتصور أن حساب الله جل شأنه
لبعض الأباء والأمهات على ما جنوا على أبنائهم ربما كان أشد من حسابه على عقوق بعض
الأبناء ذلك لأن الأباء والأمهات حين يجنون على أبنائهم استسلاما لأهوائهم
وشهواتهم فإنما يفعلون ذلك ولهم من نضجهم ورشدهم ما كان ينبغي لهم أن يردهم عنه.
في حين قد يسهم طيش بعض الأبناء وصغر سنهم وجهلهم بدينهم في إيرادهم مورد التهلكة
وعقوق أبائهم وأمهاتهم .وحساب الرشيد أشد وطأة بالضرورة من حساب الطائش الغرير.
وليس حديث عمر بن الخطاب مع
الاعرابي الذي جاءه يشكو إليه عقوق ابنه الشاب ببعيد, فلقد استدعاه عمر وسمع له
وعرف منه أن أباه لم يعلمه دينه ولم يعلمه عملا يستعين به على أمره وأهمل تنشئته ,
فلم يعاقبه عمر وإنما انهال بلومه وتقريعه على أبيه قائلا له: لقد عققت أبنك قبل
أن يعقك.
إذن فحقوق الأبناء على الآباء
كثيرة أيضا وقد بلغ من عظمها أنها تبدأ قبل مجيئهم إلى الدنيا من عالم الغيب بأن
يحسن الأب إختيار الأم التي سينتمون إليها.فيكون أول حرص العقلاء هو على أن
يختاروا لأبنائهم من الأمهات من لا يسبون أو يعيرون بها في كبرهم ونضجهم, ثم تتوالى
الحقوق بعد ذلك فتمتد من حسن اختيار اسمائهم إلى حسن تنشئتهم وغرس القيم الدينية
في نفوسهم وهي غضة إلى توفير سبل الحياة الكريمة لهم ونتواصل حتى ترقى إلى ضرورة
أعانتهم على زواجهم لمن كان قادرا على ذلك من الآباء فإن تقاعس الأب عن إعفاف ابنه
وهو قادر على ذلك ثم أصاب هذا الابن اثما , فإثمه على أبيه. كما جاء في الحديث
الشريف .. فأي سمو بمعنى الأبوة ومسئوليتها والتزاماتها أرقي من ذلك؟
إن ما يقال عن الآباء يقال أيضا
عن الأمهات ذلك أن مسئوليتهم جميعا عن الأبناء لا تقتصر على حسن تربيتهم وإعالتهم
فقط وإنما تمتد أيضا إلى بذل كل ما في وسعهم لاسعادهم ولو تكلف ذلك تضحية الآباء
والأمهات بسعادتهم الشخصية وبعض رغباتهم لهذا الهدف النبيل. غير أن ما ينبغي
الاشارة إليه في هذا المجال هو أن ما يجنيه الآباء والأمهات علآ أبنائهم أو في
حياتهم لا يحق للأبناء أن يحاسبوهم عليه حساب الند للند إذ لا تجيز القيم الدينية
الرفيعة للابن أن يتوقح على أبيه وإن كان عاصيا وإنما تفرض عليه أن يعظه برفق وألا
ينقطع عنه ويترك حسابه لخالقه .فلقد أمر الله من يجاهده أبواه على أن يشرك به ألا
يطيعهما وأن يصاحبهما مع ذلك في الدنيا معروفا.. والشرك هو أشد المعاصي فكيف يكون
الحال مع ما دونه من الأخطاء والآثام ؟َ!
إن طاعة الأبناء للآباء
المطلوبة ليست على أية حال الطاعة العمياء ..وإنما الطاعة المبصرة فيما لا معصية
للخالق فيه.. والعاقل من الآباء والأمهات من يعين فعلا ابنه على بره بالعدل معه
وبالإحسان إليه وبحسن القيام بمسئوليته عنه.
أما مادة العقوق التي تشير إليها فإن كانت تفسر أسباب عقوق بعض الأبناء للآباء والأمهات .. إلا أنها لا تعفيهم أبدا من الحساب على هذا العقوق..ولا عن وزره العظيم..وشكرا لك.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر