اللقاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
أنا
إنسانة بسيطة عمري 42 سنة نلت من صدمات الحياة ما يكفيني ويزيد وقد كنت زهرة صغيرة
لم تتفتح بعد وفي العاشرة من العمر بدأ ذبولها حين أصابني مرض ضمور العضلات
الرباعي وبدأت افقد القدرة على تحريك الساقين والذراعين تدريجيا .. وبذل أبي كل ما
يملك من جهد ومال فوق طاقته لعلاجي دون جدوى .. ومع ذلك فقد عشت حياتي الطبيعية
واشترى لي أبي رحمه الله دراجة بخارية بالتقسيط لتوصيلي للمدرسة.. وواصلت التعليم حتى
الثانوية العامة .. وكنت أبذل مجهودا شاقا للوصول إلى الفصل ويحملني أبي على ظهره
عند صعود السلم .. ثم حصلت على الثانوية العامة وعجزت بعدها عن مواصلة التعليم
فحاولت تعلم الخياطة وممارستها في البيت وتعلمتها بالفعل وما أن بدأت أجيدها حتى
انتهت آخر قدراتي الضعيفة على تحريك يدي وزحف المرض بكل قسوة عليّ وأصبحت عاجزة عن
الحركة.
وتركني
أبي في البيت .. وبدأ مشواره الجديد مع أخي الذي مرض بنفس المرض وجرى له نفس ما جرى
لي لكنه كان أكثر إصرارا مني فواصل التعليم وتخرج في كلية الهندسة .. وعمل مهندسا
لفترة ثم فقد قدرته على العمل والحركة فأحيل إلى المعاش المبكر.
وتعاونت
أسرتنا على أن تقيم له أسرة صغيرة مع إنسانة كريمة متواضعة عزفت عن الدنيا وطلبت
الآخرة وتساعده على الحياة حيث إن أمي الآن في شيخوختها وأخي يعيش في شقة صغيرة
بالدور الأرضي من إحدي العمارات بالاسكندرية الله وحده هو من يعلم كيف حصلنا عليها
..أما نحن فنقيم في شقة قديمة وصغيرة بالدور الثالث نعيش فيها منذ كنا صغارا وقبل
أن يظهر شبح المرض في حياتنا.
والمشكلة
يا سيدي هي أن شقيقي هذا هو شقيقي الوحيد حيث لا إخوة رجال لي غيره والمؤلم أنني
لا أستطيع أن أراه .. ولا يستطيع هو أن يراني إلا إذا حضر أحد أولاد الحلال
وقليلون هم وحمله بصعوبة شديدة للدور الثالث أو إذا حضرت إحدى شقيقاتي وحملتني
بصعوبة أشد لنزول السلم والذهاب إليه لزيارته ناهيك عن إحتياجي إذا مرضت لزيارة
الطبيب .. وعدم قدرتي في كل مرة على استدعائه مع ما تعرف عن أجور الزيارات
المنزلية المرتفعة كما أن شقيقي لا يستطيع أن يعيش معنا في شقتنا القديمة الصغيرة
بالدور الثالث ولا نحن نستطيع أن نعيش معه في شقته الصغيرة بالدور الأول لأن لكل
إنسان ظروفه الخاصة وحياته .. فهل تراني أحلم إذا أملت في الحصول على شقة صغيرة في
الدور الأرضي بالاسكندرية لكي يستطيع شقيقي أن يزورني حين يشاء وأزوره كلما اشتقت
إليه بغير معاناة وبهدلة في صعود أو هبوط السلم .. وحتى لا تتباعد فرص اللقاء
بيننا ويسرقنا العمر ونحن لا ندري؟
ولكـاتـبة هـذه الرسـالـة أقـــول:
انشر
رسالتك يا سيدتي صامتا ومتأملا هذه الصورة الإنسانية النادرة لشقيقين يتميان أن
يتواصل اللقاء بينهما خشية فوات العمر فيقف العجز عن الحركة دون تحقيق رغبتهما
النبيلة بالقدر المطلوب.
ترى
كم ممن يذرعون الأرض طولا وعرضا كل يوم يسرقهم العمر بغير أن يتنبهوا إلى أن
غيابهم عن لقاء الأهل يطول بأكثر مما يجوز أو ينبغي؟
إنني
أضع رسالتك تحت أنظار من قد يستطيعون تلبية هذه الرغبة المتواضعة لك .. وأواصل
تأملاتي وعجبي.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" أكتوبر عام 1991
كتابة النص
من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر