الدائرة المظلمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 

الدائرة المظلمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

الدائرة المظلمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995


إننا نتأمل مفارقات الحياة حين تسنح لنا أحيانا السعادة التي حلمنا بها طويلا, فإذا بأقدارنا تفرض علينا أن نتنازل عنها وندعها تفلت من بين أيدينا إعلاء لاعتبارات أخرى لا نستطيع النكوص عن تلبيه ندائها تماما كمن يغالب الأمواج بذراعيه المجهدتين ويبتهج فجأة لرؤية طوق النجاة يلقى إليه فإذا بنداء إنساني أقوى من نداء الحياة يجبره على أن يتخلى عنه لمن هو أشد حاجه إليه منه ويواصل هو صراعه مع الأمواج راضيا بأقداره.

عبد الوهاب مطاوع


لا أعرف كيف أبدأ رسالتي هذه لكني أعرف فقط أنني أريد أن أكتب إليك وأتحدث معك عما يشغلني, فأنا طبيب شاب وفقني الله سبحانه وتعالى فحصلت على الماجستير في تخصص نادر, وحققت نجاحا ملحوظا في مجال تخصصي قد يحسدني عليه بعض أساتذتي رغم صغر سني وحداثه تجربتي , وأقبلت على الحياة بعد طول كفاح فوجدت نفسي ناجحا في عملي الخاص وعملي الحكومي ومحاطا بإهتمام أسر كريمة وفتيات لم أكن أجد في ذاتي ما يرشحني لأن أفوز بالارتباط بإحداهن ورشحتني ظروفي هذه للزواج, فتزوجت من فتاة رأيت كل شئ فيها رائعا جميلا, وبدأت حياتي معها مستبشرا, ولكن سرعان ما تبين لي أننا بعيدان عن بعضنا البعض في التفكير والاهتمام, ومع ذلك لم أيأس ولم أتعجل الفشل بعد أن اخترت طريقي بإرادتي وخاصة أنها قد حملت بعد قليل من الزواج, ووضعت طفلة جميلة أنستني كل شئ, ثم أنجبت زوجتي طفلة ثانية .. فنسيت في رؤيتي لوجهها ووجه شقيقتها كل شئ وتفرغت لأبحاثي وعملي, وعوضني الله بمزيد من النجاح في مجالي .

 

لكن الأمور ساءت أكثر بيني وبين زوجتي بسبب تدخل أهلها المستمر في كل كبيرة وصغيرة في حياتنا, وكثر الخلافات بيننا وإزدادت حدة فإذا بزوجتي تهجرني وترجع إلي بيت أهلها وترفض هي وأسرتها أية محاولات للصلح, فلم أجد مفر من الإنفصال بعد تهديد أهلها لي ومحاولتهم الاعتداء عليّ في عيادتي الخاصة وفي عملي الحكومي مما سبب لي حرجا شديداً بين زملائي ومرضاي .. وقد عجبت كثيرا وتألمت أكثر لإصرار أهل زوجتي على الطلاق ولدينا طفلتان صغيرتان بريئتان لا ذنب لهما في شئ .. وازداد عجبي وألمي حين عرضوها عليها عريس آخر وهي مازالت على ذمتي ولم يقع الطلاق بعد, ثم رضخت في النهاية بعد التهديدات وأوقعت الطلاق, وفوجئت بالأسرة تقيم ضدي دعوى تبديد لأثاث المسكن علمت من محام صديق أنه يمكن أن يحكم عليّ فيها بالحبس ستة أشهر, فأعطيتهم كل شئ تجنبا للمشاكل وشهدت حزينا بيتي وهو ينهدم ويخلو من سكانه .. ومن أثاثه.. ومن كل شئ.

 

ولم تكتف الأسرة بذلك وإنما أقامت ضدي بأحقية زوجتي السابقة في الشقة لأنها حاضنة مع أني لم أكن أمانع في أن تعيش مع ابنتي في المسكن لأنها شقتهما قبل كل شئ, وحين حدث ذلك أحسست بأنه لم يعد مقبولا أن أعيش معها في مكان واحد, وطلبت من جهة عملي نقلي إلى مكان آخر خارج القاهرة, وانتقلت إليه وأخليت المسكن لكن طبيعة عملي لا تسمح لي بالبقاء خارج العاصمة أكثر من عامين فرجعت إليها مضطرا والتقيت بزوجتي السابقة بناء على رغبتها وعلمت منها أنها مستعدة للإقامة مع أسرتها إلى أن أجد مكانا أقيم به بالقاهرة ورجعت بالفعل إلى بيت أهلها وأقمت في مسكني لكني لم أجد للأسف خلال الشهور الستة الماضية مسكنا مناسبا لي, كما حدث خلال هذه الشهور أيضا ما هو أهم وهو أنني قد وجدت نفسي على موعد مع القدر, فالتقيت بالفتاة التي تتوافر فيها مواصفات شريكة حياتي كما حلمت بها طوال حياتي وصارحتها بكل ظروفي وتفهمتها وساعدتني على الخروج من الدائرة المظلمة التي عشت فيها طوال عامين عقب طلاقي وأشعرتني بالأمل في الحياة وفي حقي بأن أبدأ من جديد.

 

وبدأت أفكر جديا في تطوير العلاقة إلى زواج وحياة اجتماعية مناسبة, فإذا بإحدى الطفلتين تتعرض لمرض خطيرا استنفد كل الطرق المتاحة لعلاجه في مصر ووقفت عاجزا أمامها, لكن عملي وبلدي لم يبخلا عليّ بتوفير سبل العلاج الممكنة والحمد لله وتقرر سفرها إلى الخارج على نفقة الدولة لإستئناف العلاج, وحالت ظروف عملي دون سفري معها وتقرر أن تكون أمها هي مرافقتها لتستطيع رعايتها فترة العلاج, ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا كانت في عصمتي حتى أستطيع الحصول على موافقة الوزارة التي يتبعها عملي على سفرهما معا, وعند هذا الموقف انقلبت الحال فجأة يا سيدي وأصبحت زوجتي السابقة التي حاولت معها المستحيل من قبل لكيلا ننفصل بالطلاق هي التي تسعى الآن ومعها أهلها لأن أعود إليها ونجمع طفلتينا معنا تحت سقف واحد والحق أن الأمر لا يحتاج إلى إلحاح لأن مصلحة طفلتي المريضة فوق كل اعتبار.





ولـكاتـب هـذه الـرسالة أقـول:

أنت يا صديقي تساءل حقيقة الأمر هل تضحي بفرصة طفلتك في الشفاء , لكي تنال سعادتك الشخصية كما تتصورها , لكنك تتأمل فقط مفارقات الحياة حين تسنح لنا أحيانا السعادة التي حلمنا بها طويلا, فإذا بأقدارنا تفرض علينا أن نتنازل عنها وندعها تفلت من بين أيدينا إعلاء لاعتبارات أخرى لا نستطيع النكوص عن تلبيه ندائها تماما كمن يغالب الامواج بذراعيه المجهدتين ويبتهج فجأة لرؤية طوق النجاه يلقى إليه فإذا بنداء إنساني أقوى من نداء الحياة يجبره على أن يتخلى عنه لمن هو أشد حاجه إليه منه ويواصل هو صراعه مع الأمواج راضيا بأقداره.

هذا هو ما يثير تأملاتك حقا ويشعرك ببعض الرثاء لنفسك لكنك لا تقف بالفعل موقف الاختيار بين مصلحة طفلتك المريضة وبين حلم السعادة الشخصية مع أخرى وإنما تحتاج فقط لمن يشاركك موقف التأمل الحزين هذا للحظات قبل أن تمضي في نفس الطريق الذي لا بديل أمامك سواه منذ البداية, فإذا كان الأمر كذلك فإني اعتبر رسالتك هذه رسالة اعتذار لفتاتك بأسباب قدرية أقوى منك عن عجزك عن استكمال مشروع الارتباط بها وأقول لك أنك لن تخسر سعادتك "المؤكدة" بهذا الاختيار العادل لمصلحة طفلتك ولسعادة أختها وأمنهما, فالحق أيضا أن احتمالات السعادة والشقاء متساوية دائما في كل تجربة إنسانية يقدم عليها المرء مهما بدا له أنه قد انجز لها كل الاحتياطات اللازمة وتوخى لها كل أسباب السعادة والأمان..

ولا عجب في ذلك فالسعادة سر الهي يهبه الله سبحانه وتعالى لمن يشاء ويحرمه من يشاء ونحن لا نعرف البشر في النهاية الا اذا شاركناهم حياتهم وواجهنا معهم ما سوف تحمله لنا أمواج الحياة من أحداث قد تؤثر بالسلب او الايجاب على حياتنا معهم , فإذا كنت تقول لي أنك قد وجدت نفسك وذاتك مع فتاتك التي عرفتها منذ بضعة شهور ووجدت فيها كل ما كنت تحلم به من مواصفات شريكة حياتك وأنها قد أخرجتك من الدائرة المظلمة وأعادتك إلى الحياة والنجاح من جديد فلست أنكر عليها شيئا من ذلك لكني أقول لك فقط أنك أيضا كنت ترى في زوجتك السابقة كل شئ جميلا ورائعا قبل أن ترتبط بها, ومع ذلك فلقد اسفرت تجربة الحياة معها عن التعاسة والفشل وما دمنا لا نستطيع أن نستقرئ المستقبل وأن نصدر عليه أحكاما قاطعة فليكن اختيارنا إذن هو ألا نحرم طفلة بريئة من فرصتها العادلة في الشفاء , أو طفلتين صغيرتين من حقهما الانساني في الاستقرار والأمان والطفولة السعيدة وإذا كانت مطلقتك وأهلها قد أخطأوا في حقك كثيرا من قبل فإن لديك من دواعي الصفح والغفران ما لا يستطيع أب منصف أن يصمد أمامه للنهاية وهو طفلتاك ومرض إحداهما.

 

ولأنه ليست هناك معاناة إنسانية بلا جدوى, فلابد أن تكون مطلقتك قد استفادت من أخطاء تجربتها السابقة معك وتغيرت في روحها وشخصيتها أشياء جوهرية تبشر بأن استئناف الحياة الزوجية معها قد لا يصبح تجربة خاسرة أو محكوما عليها بالفشل مرة أخرى , إذ يكفي أنها هي التي تسعى إليك الآن وتلح عليك مع أهلها بعد أن كنت أنت الذي تسعي إليهم وتبذل المستحيل لاستعادتها ويكفي أيضا أنها الآن ترجح مصلحة طفلتيها على كل الاعتبارات الأخرى, فإذا التقيتما من جديد على هذه الأرضية المشتركة فلسوف تخلو حياتكما من كثير من أسباب فشلها السابق وربما تحمل إليك رياح الحياة معها أكثر مما كنت تحلم به من سعادة مع الأخرى.

"فأعط الصباح فرصة" لأن يطلع عليكما من جديد يا صديقي كما يقول أحد الأدباء الأمريكيين , ولا تحكم على التجربة قبل أن تبدأ فكلا منكما الآن إنسان مختلف عن ذلك الذي عاش تجربة الزواج الأولى وكلاكما الآن قد استوعب اخطاؤه وتعلم بعض دروس "علم الحياة" الذي يفوق في صعوبته كل العلوم والفنون.

 

ولقد انتصر لك ربك في النهاية بعدما شقيت بإحساس الهوان على أم طفلتيك واهلها وباتوا هم الذين يسعون إليك ويخطبون ودك وفي ذلك ما هو أكثر من الاعتذار عما بدر منهم تجاهك في الماضي , لقد سنحت لك الفرصة من جديد لاسترداد اعتبارك امام نفسك أولا وأمام الآخرين ولاستعادة طفلتيك وزوجتك السابقة وحياة الاسر المستقرة بعد عامين من التشتت والضياع , ففيم تترد طويلا أمام هذه "التأملات" وحياتك في بيتك في النهاية.. ولو أسفرت تجربة استئناف الحياة مع زوجتك السابقة عما لا ترضى عنه مرة أخرى فسوف تكون قد أرضيت ضميرك وأديت واجبك الإنساني تجاه طفلتك المريضة وفزت بشفائها التام بإذن الله ويحق لك بعد ذلك أن تفعل بحياتك ما تشاء بغير أن يلومك لائم. 

نعم ماذا ستخسر الآن إذا استجبت لنداء الواجب واعطيت زوجتك فرصه أخرى لإصلاح الأخطاء , سوى حلم غير مؤكد لسعادة محتملة مع أخرى في حين تخسر طفلتك المريضة وطفلتك الأخرى الكثير والكثير اذا طال ترددك أمام هذه التأملات ؟

رابط رسالة الجرح الغائر تعقيبا على هذه الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات