النظرة القاتلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
حين يكتب الصغار عن آلامهم، تعرف على الفور أن الحياة قد أثقلت قلوبهم الصغيرة بالأحزان قبل الأوان، لكن لا بأس بكل ما تحمله لنا الأيام، فهذه هي الحياة بأحزانها وأفراحها، ولابد لنا أن تتقبل همومها ومتاعبها، كما نسعد أيضا بأوقات السعادة والصفاء فيها .
عبد الوهاب مطاوع
هذه الرسالة
من الرسائل القليلة، التي أفضل عدم التدخل في صياغتها أو توضيح أفكارها، حتى لا
أمس عفويتها التي تعكس صدقا إنسانيا غريبا، تضعنا أمام مشاعر وأحاسيس، يندر أن
نستطيع تلمسها أو الاقتراب منها، ما لم تضع الحياة في طريقنا من حين لآخر رسالة
صادقة مؤلمة كهذه الرسالة.
تقول كلمات هذه الرسالة التي شدت انتباهي بعنف
من بين مئات الرسائل الأخرى التي تلقيتها هذا الأسبوع.
هل لو كتبت
إليك ستعترف بکتابتي؟ أم تقول إنني حدیث السن وصغير على ذلك؟ لا.. إنني لست كذلك،
فأنا أشعر بأن عمري مائة سنة ، مع أنني طالب بمدرسة لغات إعدادية وأبلغ من العمر
14 سنة، وقد كانت لي أسرة صغيرة مكونة من أب وأم وأخت عمرها 10 سنوات، وكانت أمي
دائمة الشجار مع أبي على «الصرف» وأنها تريد .. وتريد .. وأنا كنت أعتبر أبي مقصرا
في حقها كثيرا، إلى أن وعيت «للأمور» بعد ذلك، وفي أحد الأيام «تخانقت» أمي معه
فقال لها : هدئي نفسك فقالت له :
"علشان
مين؟" فقال لها: من أجل الأولاد، فقالت له : «أرميهم لك وأرتاح»! وفي الليل
قالت أختي الصغيرة لأبي إنها خائفة من أمي أن "ترميها" من البلكونة،
فإذا فعلت ذلك فسوف تصرخ وتمسك في حبل
الغسيل «جامد» إلى أن ينقذها أبي! فضمها أبي إلى صدره وطمأنها، واشتد الخلاف بعد
ذلك وتدخل الأصدقاء في الصلح.
وهدأت الحالة
وعشنا بعد ذلك أسعد الأيام وجلست أمي ترسم لأبي حياته ، وكيف أنه «لازم» يسافر من
أجل حياة أفضل، وسافر أبي بالفعل وبدأ يرسل لنا النقود الكثيرة، وكنت أكتب له
الرسائل بكل حب وحنان، إلى أن تعرفنا في النادي على أسرة صغيرة مكونة من زوج وزوجة
وأولاد في سننا، وتصادقنا وأصبحنا نلتقي كل يوم صباحا ومساء، ونأكل مع بعضنا.
وكانت ربة الأسرة هذه سيدة فاضلة تمنيت أن تكون أسرتي كأسرتها ، وأن تأخذني هذه
السيدة «مثل» ابنها، ومضت فترة الصيف، ثم عرفت بقصص مختلفة تماما عن الواقع،
والحقيقة أن والدتي قد حصلت على الطلاق من أبي وأنها قد «خطبت» لزوج هذه السيدة
الفاضلة ، ولم أفهم إلا أننا سنكون أسرة واحدة تضمنا نحن الأولاد جميعا، وسيكون
زوج السيدة الأب لنا كلنا، خصوصا أنه مثل زوجته الفاضلة حنون وعطوف، ويفيض مثلها
حركة وشبابا و«هزارا» فتمنيت أن يجتمع شمل الأسرتين بسرعة، وعلمت أن هذا الحب
الجديد هو قدر والدتي، وأنه أهون من أن يصيبنا مرض، وأن الله هو الذی کتب لنا ذلك،
ولم أعترض بل ساعدتها على كل شيء تريده مني، لكن الموقف الغريب والمفاجئ أن السيدة
الفاضلة زوجة هذا الرجل أخذت جانبا مختلفا تماما عما كنت أتصوره، وقاطعتنا جميعا
وكلما تقابلنا ترمیني بنظرة كالسكين تقطعني.
أما أختي فهي لاهية وتهمها المظاهر وتضحك كثيرا، وتثير غیرتي عليها دائما! واستمرت الحياة وتزوج الرجل الفاضل والدتي، ووجدت منه حنانا، لكن المشكلة ليست في زوج أمي، إنما في أمي نفسها فلقد «نقص» وزنها كثيرا، فأمي تهتم بزوجها الجديد وتقول له الكلمات نفسها التي كانت تقولها لأبي في أوقات الهدوء، وتهتم بنفسها ولا أحس بأنها تحبنا، وتشتعل النار في كلما دخلت حجرتهما، وكلما سمعت منها كلمة معينة .
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
حين يكتب
الصغار عن آلامهم، تعرف على الفور أن الحياة قد أثقلت قلوبهم الصغيرة بالأحزان قبل
الأوان، لكن لا بأس يا صديقي الصغير بكل ما تحمله لنا الأيام، فهذه هي الحياة
بأحزانها وأفراحها، ولابد لنا أن تتقبل همومها ومتاعبها، كما نسعد أيضا بأوقات
السعادة والصفاء فيها ، لقد روت لنا رسالتك المؤلمة هذه بين ثنايا كلماتها العفوية
البسيطة قصة درامية متشعبة الأطراف، عن أسرة صغيرة كانت تحيا حياتها برغم المتاعب
والمضايقات، إلى أن أقنعت الأم زوجها بالسفر إلى الخارج، ليلبي لها طموحها إلى
الحياة الأفضل، فاستجاب راضيا أو راغما، وسافر وبدأ يرسل لأسرته ما يحقق لها
الحياة الكريمة، وبدلا من أن تسعد زوجته بذلك، وتزول كل الآلام، تعرفت خلال غیبته
بأسرة صغيرة سعيدة ، زوجة فاضلة حنون وزوج يفيض حركة وشبابا و"هزارا"
كما تقول، وتصادقت الأسرتان إلى حد الامتزاج واللقاء اليومی، فلم تلبث هذه
«الصداقة» أن أسفرت عن طلاق أمك من أبيك وزواجها من رب هذه الأسرة الصديقة، وتصورت
أنت ببراءة مشاعرك أنه لن يتغير شيء في حياتكم سوى أن تجتمع الأسرتان والأبناء
جميعا تحت راية زوج السيدة الفاضلة، ويسعد الجميع، ففوجئت بموقف زوجته «الغريب »
منكم، وبمقاطعتها لكم، وتحولت نظرات الود والحب من جانبها لك إلى نظرات قاتلة
كالسكين ! وأنت معذور يا صديقي في تعجبك من "موقف" هذه السيدة منكم، لكن
الأيام ستضيف إلى خبرتك بالحياة الكثير والكثير، وستعرف حين يتقدم بك العمر أن
«الكبار» لا يتعاملون مع الحياة بمثل هذا المنطق البرئ ، وستفهم أسباب تحول مشاعر
هذه السيدة الفاضلة تجاهكم، و ستلتمس لها العذر في ذلك، فإن كنت ألومها في شيء فهو
أنها فقط تحاسبك بنظراتها الكارهة على ما لم تفعل، ولم تكن مسئولا عنه، ولو أنصفت
لغالبت مشاعرها، ولما حرمتك من عطفها السابق، لأنك تقف معها في خندق واحد هو خندق
الضحايا، وليس خندق الجناة .. فلا تغضب منها على أية حال ولا تكرهها، فمن أقدار
الصغار أن يدفعوا أحيانا ثمن أفعال الكبار واختياراتهم في الحياة .
أما والدتك
فلومي لها بلا حدود، ليس لأنها غدرت بزوجها الذي سافر إلى الخارج ليلبي مطالبها
المادية، ويحقق لها حلم الحياة الأفضل، وهدمت أسرتها الصغيرة ومزقت مشاعر طفليها
بين الأبوين، ولا لأنها قد غدرت بصديقتها المقربة ، واغتالت سعادتها وأمانها
وتزوجت زوجها، فكل ذلك قد فات أوان الحديث فيه، وإنما ألومها وبشدة لأنها لم تتفهم
حقيقة مشاعرك في هذه السن الحرجة، حين تتعامل مع زوجها کامرأة غير بعيد عن أنظارك،
فالذي لا تعرفه هو أن الأبناء خصوصا الذكور منهم يريدون أمهم أما دائما بمشاعر
الأم ورمزها المطهر، ولا يريدونها امرأة أو زوجة لأحد، حتى لو كان أباهم. لهذا فمن
الإنصاف والرحمة والحرص على سلامة تكوينهم النفسي، أن تحرص دائما على صورتها في
مخيلتهم كأم لهم، وأن تفصل بين واجباتها تجاههم وواجباتها تجاه زوجها، وتتخفى
بعلاقتها به عن أنظارهم ومداركهم ومظانهم أيضا، حرصا على مشاعرهم وسلامهم
النفسي.
ولقد فات أمك
أن تدرك أن ابنها في مثل هذه السن، هو رجل صغير يريد الاستئثار بأمه، وقد تتملکه
مشاعر الغيرة عليها حتى تجاه أبيه ، إذا استشعر منها تعاملها معه کامرأة وليس كأم،
فما بالها إذا كان هذا الزوج رجلا آخر غير أبيه؟
إن الابن في
مثل هذه السن، قد يتقبل الحياة مع أبيه في أمان ، ولو كان متزوجا من غير أمه،
وينجو سلامه النفسي من الأضرار، أكثر مما يستطيع تقبل الحياة مع أمه المتزوجة من
رجل آخر، غير أبيه بما قبل سن البلوغ أو بما يقف على مشارفها، إدراكا لمشاعر الابن
تجاه أمه في هذه السن، وهي مشاعر تختلف كثيرا عن مشاعر الابنة التي لا تستشعر
بطبيعتها الأنثوية حرجا في اكتشاف هذه الحقيقة المزعجة للابن، وهي أنها ليست أما
فقط إنما «أنثى» أيضا؟
إنني لا أعرف
إذا كنت ستستوعب حدیثی هذا أم لا؟ لكنني على أية حال أتوجه به أساسا إلى والدتك،
لكي تدرك عمق الأذى النفسي الذي تستشعره أنت، حين تراها تتعامل مع زوجها كامرأة
وليس كأم لك، ولكي تتحفظ في كل ما يثير غيرتك عليها وضيقك بها، ولكي تذكرك دائما
بأفعالها وتصرفاتها أنك مركز اهتمامها الأساسي، وليس زوجها "وفتاها
الأول" ، الذي تحبه وتحرص عليه وتعمل لإسعاده، وليس أي رجل آخر في الوجود،
ولكي لا تنشغل بعلاقتها بزوجها عنك وعن أختك الصغيرة، ولا تقصر في واجباتها معكما
ولا تخرج كثيرا وتترككما للوحدة في مثل هذه السن الخطيرة، ولكي لا تتخلى عن
واجباتها معكما وتغالي في تأديتها لكما لتعوضكما عن هدم أسرتكما الصغيرة،
وحرمانكما من أبيكما.
وإليها أسوق
ما قالته القصصية الأمريكية بلير فيرجسون في القصة التي نسجتها عن واقعة حقيقية،
هزت المجتمع الأمريكي منذ سنوات ، هي واقعة الصبي الأمريكي الذي أقام دعوى يطلب
فيها «تطليق» والديه ، والانضمام إلى أسرة أخرى يجد لديها الرعاية والحب والأمان
ويحمل اسمها، لأن الأب لاه عنه بحياته المضطربة، مما اضطره لإيداعه ملجأ للأيتام،
والأم المنفصلة عن أبيه مشغولة عنه بنزواتها العاطفية العديدة وتقلباتها المزاجية،
ومع ذلك فقد تنبهت مشاعرها تجاه ابنها فجأة حين أرادت تلك الأسرة أن تتبناه، فرفضت
بإصرار الموافقة على ذلك وطالبت بتمكينها من حضانته، فأقام هذا الصبي أول دعوى من
نوعها أمام القضاء الأمريكي يطلب فيها مطلبه الغريب هذا.
فقد قالت الأم
البديلة التي أحبت الصبي، ووفرت له الحب والأمان بین أبنائها : إنها تعتقد أن أمه
الحقيقية تحبه كما تحب كل أم أبناءها، لكنه لا يكفي لرعاية أطفالنا أن نحبهم فقط،
وإنما أيضا أن نضع هذا الحب موضع التنفيذ، بأن نترجمه إلى أفعال وتصرفات وعطاء
وتضحيات من أجلهم .
ولست أشك في
أن أمك تحبك، وتحب أختك الصغيرة، كما تحب كل أم أبناءها، لكنني أطالبها بأن تترجم
هذا الحب إلى عطاء لكما، وتضحيات صغيرة من أجلكما، لن تكلفها كثيرا من العناء،
مادامت قد عجزت عن أن تقدم لكما التضحيات الكبيرة، وتحفظ لكما أسرتكما الطبيعية .
أما أنت يا
صديقي فلن أطالبك بالصبر كما تتخوف في رسالتك، لكني سأطالبك "بالفهم"،
حتى ولو كان مؤلما أن يطالبك الإنسان بفهم ما ليس من العدل أن تفهمه، من أسرار
الحياة في مثل سنك الصغيرة، لكن لا بأس بما جرت به المقادير .
لهذا فسوف
أطالبك بأن تتجاهل كل ما يثير غيرتك على أمك، وتتجنبه وتبتعد بإرادتك أنت عنه
وتتعالى عليه مدركا - برجاحة عقلك - أنه من سنة الحياة، أن يكون لكل امرأة في
الوجود زوج تهتم به ويهتم بها، وسوف تستفيد مما يزعجك الآن، حين يتقدم بك العمر
وتحقق نجاحك وتصبح لك أسرتك الصغيرة الجميلة فتحرص عليها، وتحنو على أبنائك فيها،
وتحفظ عليهم عشهم الصغير، ولا تسمح لشيء ما بأن يهدمه أو ينغص سعادة أبنائك في
المستقبل .
فنحن یا صدیقی نعوض في أبنائنا ما حرمنا منه، ونطبق معهم كل ما تعلمناه وعانيناه من دروس الحياة ، وإذا كان لكل فرد في الأسرة دوره المهم في الحياة، فدورك في هذه المرحلة من عمرك هو أن تنجح في دراستك، وتحقق تفوقك لتشق طريقك وتصنع نجاحك في المستقبل القريب بإذن الله، فرکز کل تفكيرك الآن في أداء هذا الدور، وتشاغل عن كل ما يضايقك بالاستذكار والقراءة والرياضة والصلاة، وممارسة الهوايات المفيدة واكتساب الصداقات الجديدة لأصدقاء في مثل سنك، وفي مثل طيبة قلبك وأخلاقك الكريمة، واعتبر نفسك مسئولا عن أختك الصغيرة، وتعامل معها بحنان ورفق واكتب إلى أبيك وتبادل معه الرسائل والاهتمام، وإذا كنت تتساءل في حيرة أين أنا في كل ما يجري حولي الآن؟ فاعلم أنك في قلب أبيك، وأمك وأختك وزوج أمك أيضا، وأنك شيء عزيز وغال لدى الكثيرين، لكن كل ما ينقصك هو أن تضع أمك حبها لك موضع التنفيذ، وسوف تفعل ذلك بالتأكيد حين تتفهم مشاعرك، وستختفي کل المتاعب والآلام من حياتك قريبا بإذن الله.
شارك في
إعداد النص / محمد عايدين
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر