طائر الأحزان .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1994

 طائر الأحزان .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1994

طائر الأحزان .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1994

 

بعض الناس يصدق عليهم حقاً وصف الأديب الفرنسي العظيم فيكتور هوجو حين قال أنهم من أنبياء الألم .. غير أن العقل ينادينا دائماً وسط الأحزان والهموم التي لا نملك من أمرها شيئاً متسائلاً : وماذا بعد إرسال الدمع ومكابدة الأحزان سنوات طويلة .. هل من الحكمة أن نستسلم لها إلى مالا نهاية بلا أي أمل في السلوى أو العزاء !
وماذا نفيد من تحالفنا مع هذه الهموم على أنفسنا سوى مضاعفة خسائرنا بسببها وإضافة سقم الحياة إلى سقم النفس وعلَّتها ؟

عبد الوهاب مطاوع


أنا طالبة بالسنة الثالثة بإحدى الكليات العملية, لم يبق على تخرجي فيها سوى عام واحد وأكتب لك رسالتي هذه عن أبي, فلقد بدأت قصته مع الحياة حين تعرّف بأمي في محيط الأسرة وتم زواجهما بعد قصة حب جميلة وعاشا معاً حياة سعيدة هانئة أنجباني في بدايتها ثم أنجبا بعدي توءمًا ولداً وبنتاً , وسعد أبواي بأطفالهما وبحياتهما كثيراً رغم أن أبي موظف بسيط , لكن سعادتهما لم تطل كثيراً مع الأسف فلقد توفي شقيقي الأصغر فجأة وعمره 3 سنوات وحزن أبي لوفاته كثيراً , ولم يخفف من وطأة حزنه عليه سوى وجود أمي إلى جواره تحنو عليه وتخفف عنه , وبعد عام واحد من رحيل أخي مرضت أمي بغير مقدمات ودخلت المستشفى فلم تبق به سوى عدة أسابيع ثم انتقلت منه إلى الرفيق الأعلى مودَّعةً من أبي ومنّا بأحرّ البكاء , ووجد أبي نفسه أرملاً وحيداً بعد سبع سنوات فقط من الزواج وعمري 6 سنوات وعمر شقيقتي الصغرى 4 سنوات , وواجه الاختيار بين أن يعيش وحيداً وبين أن يتزوج مرة أخرى مع ما قد نتعرض له من شقاء أو تعاسة مع زوجته الجديدة , فلم يتردد أبي طويلاً وقرر أن يتفرغ لرعايتنا ويصرف نظراً عن الزواج بعد أمي .

 

 وبدأ رحلته معنا وحيداً بلا زوجة ولا أب ولا أم يعينانه على همه بابنتيه فكان ينهض من نومه مبكرًا ويوقظني و يعدّ لي طعام الإفطار ثم يصحبني إلى المدرسة ويذهب إلى عمله تاركًا أختي الصغيرة نائمة أو مستيقظة تلعب وحدها في المسكن الخالي , وبعد الدراسة يعيدني بعض أطفال الجيران إلى البيت فأنضم إليها في لعبها حتى يعود أبي من عمله , فيقوم بترتيب البيت ونظافته وغسل الملابس ثم طهو الطعام ونتناول غداءنا معًا في السابعة مساءً , وبعد الطعام نشاهد التلفزيون بعض الوقت ثم ندخل إلى فراشنا , ومضت بنا الأيام هكذا وأبي متفرغ تماماً لرعايتنا حتى وصلت إلى السنة السادسة الابتدائية , فبدأت أتحمل عنه مسئولية شئون البيت ورعاية أختي الصغيرة الحبيبة .

 

 

ورغم وحدتنا فلقد كنا أسرة سعيدة متحابة راضية بحياتها وكلما جاءت مناسبة أو أجازة اصطحبنا أبي إلى الحدائق واشترى لنا طرائف الطعام والحلوى , وكلما جاء عيد من الأعياد اشتريت أنا وأختي من مصروفنا هدية بسيطة وقدمناها لأبي تعبيراً عن حبنا له .. فيفرح بها وتدمع عيناه من التأثر ويقبّلنا شاكراً وممتناً , ووسط هذه السعادة ظهرت على أختي الوحيدة فجأة وهي تلميذة بالصف الثاني الإعدادي أعراض مرض غريب لعله نفس المرض الذي هاجم توءمها في سن الثالثة وتم إدخالها المستشفى واشترط الأطباء وجود مرافق لها فلازمتها فيه ولم أغادره إلا كلما جاءني إنذار بالفصل لطول الغياب من المدرسة فأذهب إليها يوماً وأعود للإقامة مع أختي من جديد , وبقيت إلى جوارها أخدمها وأرعاها وأتذكر لها أنها لم تُغضب أحداً منها منذ جاءت إلى الحياة , إلى أن رحلت أيضاً هي الأخرى إلى الرفيق الأعلى مُفضِّلة صحبة أمها وشقيقها الصغير والأخيار من عباد الرحمن في السماء .. وتركتني مع أبي للأحزان .. ولن أطيل في وصف حالة أبي ولا حالتي في هذه الفترة لم أشعر بالفرحة مرة واحدة في حياتي رغم حصولي على الثانوية العامة في نفس العام والتحاقي بكلية عملية مرموقة ونجاحي سنة بعد سنة فلقد أصبحت وحيدة تماماً في الحياة بعد رحيل أختي .

 

 

أما أبي فلقد ازداد إحساساً بالوحدة وانعزالاً عن الناس , فأصبح لا يخرج من البيت إلا إلى عمله ويعود إليه فلا يغادره إلا صباح اليوم التالي , ويغلق على نفسه باب حجرته ويظل يقرأ القرآن وكتب التفاسير والكتب الدينية حتى وقت متأخر ولا يكلمني إلا نادراً .

وإنني أكتب لك هذه الرسالة من أجله لكي تحثه على الخروج من عزلته والتفكير في الزواج مرة أخرى لأنني مخطوبة ولا أستطيع أن أتزوج وأتركه وحيداً وهو مريض ويحتاج إلى من يُعنى به ويسهر على راحته , وأبي لا يفكر في الزواج مرة أخرى رغم أنه مازال في الخمسين من عمره ومن يراه يعطيه أقل من عمره وهو يقول لي دائماً إنه لن يرتاح إلا إذا حصلت على البكالوريوس وتزوجت وسيشعر حينذاك أنه قد أدّى رسالته ولن تكون له أمنية في الحياة بعد ذلك إلا زيارة بيت الله الحرام .

 

وإنني أرجوك يا سيدي أن تنصحه بكلماتك الحانية بأن يتزوج ويسعد بحياته التي لم يسعد بها سوى سنوات معدودة ... وأن تدعو أيضاً لإنشاء عيد للأب أسوةً بعيد الأم , ألا يستحق أمثال أبي أن يكون لهم عيد نحتفل بهم فيه ؟

أما أنا فإني أعاني من الخوف من كل شيء حولي ومن انعدام الثقة بنفسي فعندما يقول لي أي إنسان إنني أتصرف خطأ فإني أبكي وأعتزل الناس ولا أتمسك برأيي أو أدافع عنه كما يفعل الآخرون ... فماذا أفعل مع مخاوفي هذه وماذا تقول لأبي ؟

 

 
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 

بعض الناس يصدُق عليهم حقاً وصف الأديب الفرنسي العظيم فيكتور هوجو حين قال عن أمثال أبيك أنهم من أنبياء الألم. ولاشك أن أباك واحد من هؤلاء المبتلين بالحزن والألم في حياتهم أعانه الله على أمره و عوضه خيراً عما عانى في حياته من شقاء , غير أن العقل ينادينا دائماً وسط الأحزان والهموم التي لا نملك من أمرها شيئاً متسائلاً :

وماذا بعد إرسال الدمع ومكابدة الأحزان سنوات طويلة ... هل من الحكمة أن نستسلم لها إلى مالا نهاية بلا أي أمل في السلوى أو العزاء !

وماذا نفيد من تحالفنا مع هذه الهموم على أنفسنا سوى مضاعفة خسائرنا بسببها وإضافة سقم الحياة إلى سقم النفس وعلَّتها ؟

 

إن الإنسان مأمور يا آنستي بأن يطلب علاج الجسم إذا مرض وأن يتلمس إليه الوسيلة , فإذا تقاعس عن ذلك عامداً كان له في رأي بعض الفقهاء من إثم المنتحر نصيب . وأحسب أن نفس القاعدة أيضاً تنطبق على كل من يستسلم لأحزانه من الحياة ولا يُعين نفسه على البرء منها بعد حين .. نعم .. نعم .. لدينا الكثير مما يهيج الأحزان ويدفعنا للانزواء والزهد في الأشياء ... لكن هل يغير ذلك من تصاريف القدر شيئاً .. وهل يعيننا على تحمل الحياة ويزيد من قدراتنا على مواجهتها ؟  لا شيء من ذلك بالطبع , لهذا فلابد من مواصلة الاشتراك في مباراة الحياة مهما كانت العثرات , ولابد من التعلق دائماً بالأمل الذي لا يخيب في عدالة الله ورحمته بنا أن يعوضنا عن أحزاننا خيراً كثيراً ويرشحنا لسعادة مُدَّخرة لديه بعد انقشاع الغيوم .

 

وأحق الناس بالسعادة هم من كابدوا مرارة الألم وتجرعوا كؤوسه حتى الثمالة , ولهذا فلابد أن يخرج أبوك من عزلته ويتشاغل عن أحزانه بشئون الحياة اليومية وبكل ما يعينه على النسيان , ولابد أن يطلب سعادته المؤجّلة ويفكر في الزواج من شريكة حياة ملائمة تملأ فراغ وحدته وتعوّضه عما قاساه من آلام .. ولكل إنسان دائماً زوجة ملائمة له وفي أية مرحلة من مراحل العمر , وأبوك حين يفعل ذلك فإنه لا يطلب سعادته المشروعة وحده وإنما يطلب أيضاً سعادتك أنت لسبب بديهي هو أننا لا نسعد بحياتنا أبداً وأعزاؤنا الأقربون تعساء , وأنتِ لن تهنأ لكِ حياتكِ الزوجية وأبوكِ منسحب من الحياة يجتر أحزانه في عزلته ويكابد وحدته , إذًا فهي ليست مسئوليته الشخصية تجاه نفسه فقط وإنما مسئوليته الأبوية تجاه ابنته كذلك . وأبوك المضحي الذي تحمّل مسؤلياته تجاهكِ بأمانة لا يليق به أن ينكص أبداً عن أداء آخر التزاماته تجاهكِ وهي أن يسعد نفسه لكي تسعدي بسعادته وتطمئني إلى حياتك , فواصلي إلحاحك عليه بهذه الفكرة يا آنستي وأكدي له دائماً أنكِ لن تغادري بيته إلى عش الزوجية إلا وقد سكن إلى شريكة حياة تنسيه أحزانه وترطب جفاف حياته .

 

 

أما مخاوفك المرضية من كل شيء حولك فأمرها مفهوم بالنظر إلى ظروفك وخبراتك المؤلمة العديدة خلال طفولتك وصباك وأيضاً بالنظر لمعايشتك لظروف رحيل شقيقتك رحمها الله , وسوف تزول كل هذه المخاوف تدريجياً مع ثقتك بربك واطمئنانك إلى مستقبلك وحياتك الجديدة مع شريك حياتك بإذن الله , وضعف ثقتك بنفسك كذلك أثر آخر من آثار هذه البيئة الحزينة التي نشأتِ فيها يتيمة محرومة من حنان الأم ثم صُدمتِ تلك الصدمة المروّعة برحيل شقيقتك الطيبة رحمها الله , فلقد تحملت الكثير ولا عجب في أن تترك جراح الحياة بصماتها عليك على هذا النحو , لكن كل ذلك مؤقت وسوف تستعيدين سلامك النفسي مع تغير الأحوال .... وارتفاع معنويات أبيك بعد خروجه من عزلته وتفكيره في الزواج , وأستطيع إلى جانب ذلك أن أقدم لك بعض المساعدة النفسية لغرس الاطمئنان في نفسك عن طريق طبيب متخصص ويسعدني أن أرتب لك هذه المساعدة في أي وقت , فلقد طالت رفقتكما للأحزان وآن الأوان لأن تتخلصا من صحبتها الكئيبة وتشرق عليكما معاً شمس السعادة والأمان بعد طول انتظار , أما فكرة عيد الأب ففكرة جيدة لكني أفضل دائماً أن يكون للأسرة عيد واحد يحتفل فيه أفرادها بالأم والأب معاً أو بمن بقي منهما على قيد الحياة , فإذا كان هذا ما تقصدينه فإني أؤيدك فيه بلا تحفظ ... وأتمنى لكِ ولأبيكِ خير ما تتمنيان لنفسيكما وشكراً لكِ على مشاعرك الإنسانية الصادقة تجاه أبيك وتجاه الحياة بوجه عام .

 

تنوية هام

تعقيب كاتبة الرسالة بعد سنوات من نشرها

 

إلى حضراتكم تعقيب كاتبة الرسالة والتي عملت معنا لفترة في فريق العمل بالصفحة الرسمية على الفيس بوك وقد سبق وروت لنا عن مشاعرها هي ووالدها الكريم رحمه الله بعد نشر الرسالة واهتمام الأستاذ بمقابلتهما بمكتبه ولكن لم يكتب لهما نصيب للأسف

طلبنا منها كتابة تعقيب على الرسالة فكانت هذه السطور:

  

وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا

ورحم الله استأذنا الكبير عبد الوهاب مطاوع الكاتب الإنسان ذو القلم الرحيم ..

عندما عجزت عن إقناع أبي بالزواج فكرت فى إرسال هذه الرسالة إلى أبى الروحي لأنني وأبى من عشاق بريد الجمعة وكنا نتشاور سويا فى القصص المنشورة واعتقدت انه سوف يقنع أبى وعندما أرسلت الرسالة وكنت اعتقد أنها بنسبة 90 % لن تنشر لأنني اعرف أن الدنيا مليئة بالمبتلين والمحتارين وأهم منى بوقت واهتمام الأستاذ .. وعندما اشتريت الجريدة صباح يوم الجمعة فوجئت بنشرها وفرحت كثيراً ودخلت على أبى وقلت أتفضل أقرأ بريد الجمعة النهاردة !!

وبعد قراءتها وجدت عينه تدمع ويقول لى كم سعدت برسالتك وسعدت أكثر برد الكاتب وكلماته الحانية والتي تخفف كثيرا عن المهمومين.. ولكن مع هذا لم يقتنع أبى بالزواج لأنه كان يريد أن يظل وافيا لوعده لأمي وأيضا ليترك لى الشقة والمعاش حتى لا أحتاج لأحد يوما ما , وتزوجت وبقيت ازور أبى باستمرار يومين أسبوعيا لأقضيهما معه وأقوم بكل ما يحتاجه من مأكل وملبس وتنظيف البيت وأيضا لزيارة الأقارب .. حتى توفى أبى بعد زواجي ب 6 سنوات وكثيرا ما كنت أسأله من وقت لأخر هل أنت راضى عنى يا بابا ؟ كان يقول لى كل الرضا وأنت لم تتركيني أو تقصري معي أبدا ! ومازلت حتى اليوم عندما أتذكره وأحزن على فراقه أقرأ القصة التى بعثتها من سنوات والتى نشرت فى كتاب بنفس الاسم (طائر الأحزان) فأجد رده الكريم وكلماته التي تعيد لى الأمل فى الغد والثقة فى رحمة الله تعالى .. ثم أتذكر انه مات راضياً عنى فأرتاح وأهدأ وأتمنى أن أقابله مع احبتي فى الجنة .. جمعني وإياكم فى صحبة حبيبنا المصطفى فى اعالي الجنان .. آمين

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير عام 1994

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات