المهلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
تلقيت في بريدي هذا الأسبوع هذه الرسالة :
أنا فتاة عمري 22 سنة أعمل
منذ سنة ونصف تقريبا في إحدى المؤسسات الخاصة وأتقاضى مرتبا لا تحلم به أية فتاة
في مثل ظروفي فأنا لست جامعية وإنما أحمل مؤهلا متوسطا لكن هذه المؤسسات لا تراعي
الشهادات في تقدير المرتب وإنما تحدده بحجم العمل الذي ينجزه الموظف وهذا هو سر
نجاحها وسر تحقيقها دائما للأرباح .. وفي مثل هذه الأعمال يا سيدي يكون للإدارة فيها سطوة كبيرة على
الموظفين لأنها تعمل بالنظام الأوروبي الأمريكي الذي يؤمن بمبدأ افصل وعين في لحظة
لذلك فإن للمدير فيها صلاحيات هائلة فهو يستطيع أن يرفع مرتبك في لحظة ويستطيع أن
يخصم نصفه في لحظة كما يستطيع بكل بساطة أن يقول لك أنت مفصول فلا يراجعه أحد في قراره وأقصى ما
تستطيع أن تفعله هو أن تلجأ للقضاء لطلب التعويض الذين يرحبون دائما بدفعه مهما
بلغت قيمته ولا يرحبون أبدا بالرجوع في قرار الفصل لهذا فنحن يا سيدي
نتقاضى مرتبات كبيرة تزيد على أضعاف مرتبات الحكومة والقطاع العام لأننا لا
نتمتع بالأمان الذي يحس به العاملون فيهما كما لا نتمتع بالطبع
بالراحة التي يشعر بها كثيرون منهم في "التكايا" التي يبذلون
فيها قطارات شحيحة من العرق كل يوم في حين نعمل نحن 9 ساعات كاملة عملا يهد الحيل
كل يوم.
ولعلك تسألني أكتب لك هذه
الرسالة لأحدثك عن مزايا وعيوب العمل في القطاع الخاص أم ماذا فأقول لك إنني كتبت
لك هذه المعلومات ولا أشك في أنك لا تعرفها لكي أذكرك بها وأنت تستعد لإبداء رأيك
في مشكلتي أما مشكلتي فهي أنه منذ ست شهور تغير مدير العمل وجاءنا مدير جديد
واستقبلت هذا الحدث استقبالا عاديا غير متصورة أنه يمكن أن يكون له أي أثر في
حياتي لكن ما حدث كان مفاجئا لي .. فمنذ اليوم الأول الذي اجتمع بنا فيه المدير
الجديد لاحظت أنه يلاحقني بنظراته وخلال الأيام التالية لتسلمه العمل لاحظت إنه
يخرج من مكتبه كثيرا ليسألني عن أشياء يستطيع بكل سهولة أن يسأل عنها سكرتيرته ثم
بعد مغادرته للعمل إلى بيته يتصل بي
تليفونيا ليتحدث معي في أي كلام حول العمل ثم لم تمضي أسابيع حتى فوجئت به يرفع
مرتبي من 130 جنيها إلى 190 جنيها ويقرر الزيادة بدل المواصلات لي من 20 إلى 40
جنيها رغم أن هناك موظفا زميلا يسكن في نفس الحي الذي أقيم فيه كان قد طلب رفع بدل
المواصلات له وقوبل طلبه بالرفض كما وافق
المدير أيضا على منح ساعتين إجازة للذهاب إلى دورة دراسية أتلقاها لمدة ثلاثة أيام
كل أسبوع .
وذات يوم أبلغتني السكرتيرة
أن المدير يطلبني في مكتبه فتوجهت إليه
فرحب بي ترحيبا شديدا ثم سألني هل أنا مخطوبة أم لا ثم قال لي أن لديه عريس لي وأن هذا العريس هو
أنا وطلب مني تحديد موعد للقاء أبي فادعيت
له أنه مسافر ولن يعود قبل شهرين فقال لي أنه سينتظر عودته ليخطبني منه والآن مضت أسابيع من هذه المهلة التي أعطيتها لنفسي وأنا
في شدة الحيرة لا أعرف كيف أتخذ قراري وكيف أواجه مصيري.
فمديري يا سيدي رجل عمره 54 سنة وهو مطلق جرب حظه قبل ذلك في الزواج ولم يوفق وليس له أبناء وأنا عمري 22 سنة وفارق السن بيني وبينه 32 سنة ولا أستطيع أن أواجه سخرية الناس وشكوكهم وسوء ظنهم لو قبلته زوجا وأنت تعرف هذه الأمور جيدا وأنا الآن بين نارين .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
أقول لك
يا آنستي أنك قد أخطأت منذ البداية بتحديد هذه المهلة وبالقبول الضمني لعرض الزواج
وأنت ترفضينه من حيث المبدأ ولا تجدين فيه مستقبلك وحياتك ولا تنوين منذ اللحظة
الأولى الموافقة عليه.
إنني أقدر
ظروفك وأحس بمدى حرجها واستشعر الخطر الذي يهددك في مصدر رزقك إذا رفضت لكني أعرف
أيضا أن كل فتاة تستطيع دائما أن ترفض اقتراب أي إنسان منها إذا كانت لا ترغب فيه
ولا ترى فيه فتى أحلامها بغير أن تجرح مشاعره وبغير أن تحوله إلى خصم لها وقد كنت
تستطيعين يا صديقتي مع كل الاحترام لمديرك أن تشعريه بأنك منصرفة عنه إلى حياة
أخرى تأمنين فيها مع غيره بل كنت تستطيعين الإدعاء أنك مخطوبة لغيره ومرتبطة به وتستعدين
للزواج منه والرجل السوي لا يتمادى عادة في الاقتراب ممن يشعر في انصرافها عنه
لكنك فيما يبدو قد ارتحت إلى هذا التقرب في البداية غير متصورة إنه سوف يصل إلى
هذا المدى البعيد وارتحت أكثر فيما يبدو إلى الامتيازات والعلاوات التي حصلت عليها
بغير حق بل وربما طمعت في المزيد متصورة أنك لن تخسري شيئا جوهريا في النهاية ..
لهذا أثرتي أن تتركي الباب مواربا عسى أن تتدخل العناية الإلهية وتنقذك في اللحظة
الأخيرة وهذا تفكير أبسط ما أستطيع أن أقول عنه أنه تفكير غير بريء .
إنني أؤيدك تماما في رفضك الاقتران بهذا المدير لسبب واحد هو فارق السن الهائل بينكما ولا أرى في زواجك منه أي احتمال للنجاح والاستمرار لأن تكافؤ السن شرط أساسي لنجاح الزواج وتوفيقه وكم رأينا في الحياة فتيات أعمتهن الشقة الفاخرة والسيارة الفارهة والرصيد الضخم عن أشياء كثيرة فحكمن على أنفسهن بالتعاسة والفشل خلال سنوات قصيرة والزواج رحلة عمر يا آنستي وليس رحلة مؤقتة ولو أتيح لي أن ألتقي بمديرك لنصحته بألا يلتمس للزواج فتاة في عمر بناته و بأن يختار زوجة مناسبة مقاربة له في السن لكي تمضي سفينة الحياة معها بلا عواصف ولا أنواء .
إن كارثة بعض المطلقين التعساء هي أنه تتسلط
عليهم أحيانا الرغبة في الاقتران بزوجة أصغر وأجمل ممن تحطمت معها سفينة الزواج كأنما يريد أن يقول لمطلقته وهي عادة مقاربة له
في السن أنه رجل مرغوب مطلوب وقد تزوج
بعدها من هي أصغر منها بمراحل وأجمل وهذه كارثة أخرى لأننا قد نستطيع أن نتحدى
أشياء كثيرة في حياتنا لكننا لا نستطيع ولا يجب أن نتحدى أعمارنا لأن تحدي العمر
من قبيل تحدي الزمن ومن ذا الذي يستطيع أن يتحدى الزمن.
إنني أتوسم في مديرك هذا أن يكون شخصا فاضلا لأنه قد اتخذ معك طريقا مستقيما من البداية وإن كنت لا أغفر له تمييزك في المرتب وبدل المواصلات بمجرد أنه قد اختارك للزواج منه ورغم ذلك فإني أرى فيه شخصا مستقيما لن يقبل أن يحطم حياتك وأن يفصلك من عملك ويحرمك من مورد رزقك لمجرد أنك لا ترين فيه مستقبلك .. فهو رجل ناضج مرموق تتمناه سيدات كثيرات ملائمات له في العمر فصارحيه برقة وأدب بأنك لا ترين لنفسك حياة معه حتى لو اضطررت حرصا على مشاعره إلى الادعاء أنك مرتبطة بغيره وأنك تبنين معه عش أحلامك وأملي كبير في أن تنتصر رجولته على انفعالاته فلا يبطش بك ولا يظلمك خاصة وهو رجل ناضج يفهم الحياة ويعرف تماما أنه لا يسوء المرء ألا يجد قبولا لدى إنسان معين لأن الأرواح تتوافق وتتباعد وما اتفق منها ائتلف وما اختلف منها تباعد ولا لوم على أحد في ذلك ولا عيب فيه ولا مساس فلا سلطان لأحد على قلب غيره حتى لو كان إمبراطور الدنيا لأن القلوب لا يملكها سوى خالقها فقولي له ذلك يا آنستي ولو في رسالة مكتوبة وانتظري النتائج وأملي كبير في أن تكوني سعيدة بإذن الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986
كتابة النص من مصدره / مؤمن
بكر
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر