لحظة الخروج .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002
قد تكون مواجهة الحياة في بعض الأحيان أقسى من مواجهة عقوبة السجن.. وقد يكون عقابها أشد وطأة من عقاب القانون .
أنا دكتور مهندس عمري 52
عاما, حصلت على الدكتوراه في الهندسة من أكبر جامعات أمريكا.. وغبت عن مصر20
عاما, شغلت خلالها مراكز علمية مرموقة ومناصب مهمة في عدد من الدول العربية,
وحصلت على العديد من شهادات التقدير من الشركات العالمية في مجال الأمن الاليكتروني.
بعد عودتي من الاغتراب
الطويل شاء القدر أن أتهم في قضية امتلاك أجهزة كمبيوتر أمريكية وطابعة ليزر
يمكنها تصحيح العملات بكفاءة مائة في المائة.. وانتهى بي الأمر إلى المحاكمة
ودخول السجن وأمضيت فترة العقوبة بسلام.. وسوف يفرج عني بعد شهور قليلة لأواجه
حياة جديدة افتقد فيها فرحة الإفراج والخروج إلى الحرية بسبب مقاطعة أهلي وأقاربي
لي منذ أول لحظة دخلت فيها السجن.
إنني لن أقول إنني برئ ولن أعاتب أو ألوم الظروف
التي أحاطت بي وأشارت إلي أدلة الاتهام. لكني أقول الحمد لله فأنا حتى وأنا خلف
الأسوار أتلقى عروضا لإدارة مشاريع وشركات عملاقة ببعض دول الخليج, ولكن شيئا
بالنفس يخيفني من العودة للاغتراب من جديد .. وزوجتي في مركز مرموق بإحدى
الوزارات وأولادي تخرجوا في كليات القمة ومع مقاطعتهم لي فإنني عشت العذاب كله خلف
الأسوار لتحقيق رغبتهم في الابتعاد عني ماداموا أنهم سعداء بهذه المقاطعة.
ولقد حاولت كثيرا الاتصال
بأهلي وزوجتي وأولادي دون جدوى .. ومع أن زوجتي في مركز علمي إلا أنها رفضت
الطلاق واكتفت بالهجر وطلبت مني أن أعيش حياتي بعيدا عن دائرة حياتها الجديرة
بالاحترام.
فهل أجد من تقدر ظروفي
وتشاركني الحياة لأني أخشى مفاتن الدنيا أمام مبادئي والتزامي علما بأنني أعيش
بمفردي وأقدس الحياة الزوجية بكل احترام وليس لي من شروط فيمن ترضى بواقعية
الأقدار سوى أن تقف بجانبي وتقدر ظروفي. إنني أخشي لحظة الإفراج عني لمواجهة
حياة جديدة لن أجد فيها من ينتظرني فيتملكني الحزن وانكسار الذات. فماذا أفعل؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
قد تكون مواجهة الحياة في بعض الأحيان أقسى من مواجهة عقوبة السجن.. وقد يكون عقابها أشد وطأة من عقاب القانون .. فالحياة بلا أسرة ولا أهل ولا أبناء ولا قبول من الآخرين ولا أمل في استعادة الأرض المفقودة لديهم أقسى بالفعل على ذوي العقول من قضاء بضع سنوات وراء الأسوار, وهذا العقاب الاجتماعي لمن ينحرف عن الجادة هو المكمل للعقاب القانوني.. والأكثر تأثيرا منه في بعض الأحيان, بل إنه قد يكون من أكثر الروادع فعالية لدى البعض في ردهم عما يفكرون في الإقدام عليه حين يتصورون ما سوف يصيب الأهل والأبناء من جرائه.. وما سوف ينالونه هم من نبذ الأهل ومقاطعتهم له.
ومنطق الأهل حين يقاطعون من
يرتكب جريمة مخلة بالشرف هو أن من ارتكبها لم يضعهم في اعتباره حين أقدم على فعلته وبالتالي فلقد نبذهم
هو أولا من تفكيره وباعدهم, ويحق لهم بدورهم هم أيضا أن ينبذوه ويباعدوه..
ولهذا فلا لوم على زوجتك وأبنائك إذا عجزوا حتى عن القيام بزيارتك والاهتمام بأمرك,
فلقد بادرتهم أنت للأسف بالإساءة إليهم والتخلي عنهم وعدم الاهتمام بأمرهم ولا بما
سوف يلقون من المجتمع من جراء ما أقدمت عليه.. وعفوا لهذا الحديث الذي استدعته
رسالتك.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر