الشعاع الوحيد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999
إذا حق لأحد أن يحزن
فليحزن على أيام العمر الثمينة التي تبددت في الجمود والعناد والكبرياء، ولنحزن
أيضاً على تعجلنا لأسباب الشقاق والجفاء والصدام مع الأعزاء .. ولقد كان في
مقدورنا لو أوتينا الحكمة وبُعد النظر أن نتفادى كل ذلك، وألا نحرمهم مما رغبوا
فيه ورأوا فيه جماع سعادتهم وغاية أمانيهم، ولَكُنّا قد أسعدنا أيامهم بالتأييد
والمساندة، وتركنا لتجربة الأيام أن تمتحن صدق اختياراتهم .
عبد الوهاب مطاوع
قرأت رسالة لحظة العبور
للسيدة التي فقدت زوجها تحت عجلات القطار عقب خلافها معه وتشعر بالندم على سابق
دعائها عليه بالموت, فأثارت الرسالة شجوني وذكرتني بما أحاول نسيانه خلال البقية
الباقية من عمري, فأنا سيدة تزوجت عقب دراستي الثانوية منذ 38 عاما من رجل فاضل
كان يكبرني بـ3 سنوات ورزقني الله بولد لم يعش أكثر من ساعات, وفسر الأطباء
ذلك بالمشكلات الوراثية نظرا لصلة القرابة بيني وبين زوجي, فانطويت على نفسي
وتفرغت لرعاية زوجي ثم شاءت إرادة الله أن يرزقني بابنة نجت من مصير شقيقها ودرجت
في العمر حتى بلغت ثلاث سنوات ثم بابنة أخرى تعلقت بالأمل في أن تنجو هي الأخرى من
هذا المصير, لكن الأجل المحتوم حل عليها بعد أسابيع, فقررت أنا وزوجي عدم
محاولة الإنجاب مرة أخرى, وشكرنا الله على ابنتنا التي حفظها لنا, وركزت كل
حبي ورعايتي أياها, واعتبرتها ملاكي الصغير, الذي يضيء سماء حياتي والتصقت بها
ولازمتها في كل خطواتها, ورأيتها وهي تتفتح أمامي كالزهرة النضرة الجميلة, فما
أن بلغت سن الخامسة عشرة حتى وجدنا من شباب العائلة من يطلب الارتباط بها لكني
وزوجي أصررنا على أن تستكمل تعليمها وزادني إصرارا على ذلك أنني لم أكمل تعليمي
العالي .
والتحقت ابنتي بالجامعة
وراحت تروي لي عن صديقاتها بالكلية وارتباطاتهم بشباب من زملاء الجامعة وعدم
رضائها هي عن ذلك, فازددت حبا لها وإعجابا بكمالها وعقلها وأخلاقياتها, ومضت
بنا الحياة وادعة سعيدة حتى أوشكت على التخرج, فإذا بوالدها يرحل عن الحياة,
فيصبح كل منا هو السند الوحيد للآخر في الحياة, وتخرجت ابنتي الغالية من كليتها
وبدأت رحلة العمل وازددنا تلاصقا واقترابا, وأصبحت اعتمد في حياتي على معاش زوجي
الراحل ومرتب ابنتي التي تضعه في يدي أول كل شهر فتترك لي حرية التصرف فيه ثم بدأت
بعد فترة ألاحظ عليها السرحان وعدم التركيز وبعدها النفسي عني, وحاولت أن أتحرى
عن طريق صديقاتها سر ما طرأ عليها من تغير, ففوجئت بأنها قد تعرفت على شاب
يكبرها بـ12 عاما, ويعمل معها في نفس المكان نفسه وواجهتها بما عرفته عنهما,
فلم تنكره وإنما أخبرتني بأنها وافقت على الزواج منه وأنها كانت تحاول منذ فترة
تهيئتي لهذا الأمر, لكن الحزن الذي سيطر علي بعد وفاة أبيها لم يمكنني من ملاحظة
ذلك.
وطلبت منها مقابلة هذا
الشاب لكي استطيع أن أصدر حكمي عليه, والتقيت به فلم يترك لدي أي انطباع
بالارتياح إليه, خاصة أن إمكاناته المادية عادية غير أنني لا أنكر في الوقت نفسه أنني قد رأيت الحب في عينيه لابنتي وعقب
انصرافه من البيت ثرت على ابنتي لأول مرة في حياتي وأبلغتها برفضي القاطع لهذا
الشاب لأنه دون المستوى الاجتماعي المناسب لعائلتنا وأيضا بسبب فارق السن بينهما.
وبكت ابنتي لكنها لم تيأس ولم تكف عن محاولة إقناعي به, وراحت تقنع
كل من حولي بالتوسط لها عندي, وأنا مازلت على موقفي منها وهي لا تيأس أبدا من
الأمل في نيل موافقتي حتى حل الصمت والجفاء بيننا وأصبحنا غريبتين تعيشان تحت سقف
واحد, وأستمر الحال بيننا على هذا النحو خمسة أشهر ثم حدث أن رددت على التليفون
ذات مرة فكان هذا الشاب, ولتشابه صوتي مع صوتها فقد ظن أنني ابنتي وتحدث على هذا
الأساس, فطلبت منه الابتعاد عنها لأنني لم أوافق عليه نهائيا, ولأن هناك من
سوف يتزوجها وهو ابن خالتها ثم أغلقت السماعة في وجهه.
ولم أكتفي بذلك وإنما شكوته
لمديره في العمل وافتريت عليه بالكثير والكثير, وحاول الرجل تهدئتي ووعدني بأن
يتدخل لديه لمنعه من تكرار الاتصال بابنتي, ولم تمض أيام حتى كانت ابنتي قد علمت
بكل ما جرى ولا أنسى نظرتها اللائمة لي .. ولا عبارتها المؤلمة لي بعد أن ظلت
للحظات تنظر إلي في صمت مؤلم: حرام عليك ..ما تفعلينه بي!
وازداد حاجز الصمت والجفاء الصامت بيني وبينها رسوخا, واستمرت الحياة
بيننا على هذا النحو وأنا آمل كل يوم في أن ترجع إلى طبيعتها معي وتنسى هذا الشاب
.. وهي تأمل في أن أرحم يتمها ووحدتها وأرجع عن موقفي من زواجها.
إلى أن كان يوم انصرفت فيه إلى عملها باكية وهي تكرر لي نفس تلك
العبارة المؤلمة : حرام والله ما تفعلينه بي فلم اجبها سوى بالدعاء عليها .. لخصامها
وجفائها لي بعد أن كرست كل حياتها لها فغادرت البيت والدموع في عينيها, فكانت
المرة الأخيرة التي رأيتها فيها وهي على قيد الحياة .. يا حسرة قلبي المكلوم عليها
ويا مصيبتي الهائلة فيها!
ولكاتبة
هذه الرسالة أقول:
من المؤكد يا سيدتي أن
العمر لو كان قد طال قليلا بهذه الابنة الغالية فإنك كنت ستتوصلين معها إلى حل مرض
لهذه المشكلة التي عكرت صفوكما في الفترة الأخيرة من حياتها القصيرة, وقد كان الأغلب
الأعم هو أن تتنازلي أنت عن معارضتك لزواجها وتقبلي بارتباطها بهذا الشاب وتسعدي
بسعادتها, غير أن عجلة الأيام سريعة الدوران للأسف وكثيرا ما تسبق خطواتنا ورغباتنا,
فنرجو لو كنا قد أسرعنا, قليلا بما تدبرناه في أعماقنا ولم نستبعد الإقدام عليه
ذات يوم قريب أو بعيد لكننا آثرنا كما نفعل أحيانا لثقتنا غير المبررة في الأيام أن
ننتظر بعض الوقت عسى أن يجيء التنازل والاقتراب من الجانب الآخر.. أو عسى أن
نفوز نحن في سباق التحمل والمعاناة إلى أن تضعف مقاومة الآخرين ويسلموا لنا
برغباتنا.. وقد نكافئهم في هذه الحالة نحن أيضا بالاستجابة لبعض رغباتهم.
فإذا حق لأحد أن يحزن
فليحزن على أيام العمر الثمينة التي تبددت في الجحود والعناد والكبرياء, ولنحزن أيضا
علي تعجلنا لأسباب الشقاق والجفاء والصدام مع الأعزاء, وقد كان في مقدورنا لو أتينا
أو أوتينا الحكمة وبعد النظر أن نتفادى كل ذلك وألا نحرمهم مما رغبوا فيه ورأوا
فيه جماع سعادتهم وغاية أمانيهم, ولكنا قد أسعدنا أيامهم بالتأييد والمساندة
وتركنا لتجربة الأيام أن نمتحن صدق اختياراتهم.
فهذا هو واجبنا تجاههم يا سيدتي أن نخلص لهم النصح دائما فيما نراه
محققا لخيرهم وصلاح أمرهم ونبذل أقصى ما نملك من جهد لإقناعهم به .. وتبصيرهم
بما هم مقدمون عليه, فإذا تمسكوا بعد كل ذلك باختياراتهم الشخصية.. وأبوا
الاقتناع بما في وجهة نظرنا بشأنهم من حكمة وبعد نظر, لم نحرمهم بالرغم من ذلك
من ثمار حكمة الأيام التي اكتسبناها بالتجربة والخطأ خلال رحلة العمر, ولم ندعهم
لطريقهم يواجهون فيه المجهول وحدهم, وإنما واصلنا حدبنا عليهم حتى وهم يسيرون
إلى الطريق الذي عارضناه من قبل.. وأكدنا لهم في كل حين أننا سنكون إلى جوارهم
دائما وفي كل الأحوال وكلما احتاجوا إلى دعمنا ومساندتنا, لأن ما بيننا وبينهم
لا ينفصم بخلاف في الرأي أو التوجهات.. وإنما دائم ومستمر إلى أن يقضي الله أمرا
كان مفعولا.
وأحسب أن هذا هو نفسه ما
كانت ستئول إليه علاقتك بابنتك الغالية بالرغم مما حدث بينكما في الأيام الأخيرة,
وما تساؤلاتك المريرة عما إذا كان من الممكن أن يتأخر عنها الأجل المحتوم لو لم
تكن قد غادرت البيت دامعة مشغولة الخاطر بهمها, سوى صدى آخر لما تعايننه الآن من
حسرة عليها.. وإحساس مؤلم بالذنب تجاهها لأنك قد عارضت اختيارها لشريك حياتها,
ولا لوم على احد في القضاء الذي لا راد له ولا يقدم أو يؤخر منه شيء وإنما هي
حسرات القلب المكلوم على وحيدته الراحلة, رحمها الله وأعانك على أحزانك عليها ..
فاعفي نفسك من مرارة الندم بعد فوات الأوان يا سيدتي.. وتذكريها دائما بدعائك
الصالح لها وتأكدي أنها لم تحمل لك في أعماق قلبها سوى الحب والحنان اللذين كانا
خلال عمرها القصير نبعا دائما يفيض بمائه العذب عليك, فإن كان قد حل بعض الجفاء
بينكما في شهورها الأخيرة, فلقد كانت تعرف في أعماقها انك ما عارضت في زواجها
إلا بدافع الحب لها والخوف عليها والأمل من اجلها في أفضل الأشياء.
وبالصبر والصلاة والإيمان نستطيع دائما أن نروض الأحزان.. ونأمل في عون السماء لنا على احتمالها ومواصلة الحياة بالرغم منها.. وقديما قال الشاعر الانجليزي وودورث: إن العاقل هو من يحزن على ما بقي له من العمر وقد حاصرته الأحزان والآلام أكثر مما يحزن على ما مضى من هذا العمر.. ولو كان فيه ما فيه من الأخطاء والأشواك.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1999
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر