لحظة العبور .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1999
من سداد اللسان وهداية القلب وخلو الصدر من سخيمته ألا يستجيب
الإنسان لنوازع الغضب والحنق فينطق لسانه بما يندم عليه، أو ينطوي قلبه وصدره
للآخرين على ما يكرهه لنفسه من الأحاسيس والمشاعر .. غير أن الإنسان خلق عجولا فما
ان يضيق صدره بشيء حتى يطلق العنان للسانه وتمنياته، التي لا تعدو أن تكون في
أغلب الأحيان أكثر من إطلاق للبخار المكتوم في صدره، ولا تعبر في حقيقة الأمر عن
رغباته وتمنياته الحقيقية.. وما أسرع ما يندم عليها المرء لو تحققت في أرض
الواقع.
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة من قارئات بريد
الجمعة منذ عام 1985حتى الآن .. ولم أتصور أن يجيء اليوم
الذي أصبح فيه صاحبة إحدى مشكلاته .. فلقد تزوجت من موظف بإحدى الوزارات وأنجبنا
ثلاثة أبناء, وسافرنا جميعا في منتصف السبعينيات إلى إحدى الدول العربية حيث عمل
زوجي في وظيفة بإحدى الهيئات وعملت أنا أيضا في تخصصي ورجعنا إلى بلدنا بعد رحلة
غربة طويلة والتهمت شركات توظيف الأموال جزءا كبيرا من حصيلة شقاء الغربة, ووضعنا
الجزء الباقي في البنك ليدر علينا دخلا شهريا يعيننا على مواجهة الحياة ونفقات
الأبناء, ومضت بنا الأيام بحلوها ومرها, وتركت عملي وتفرغت لزوجي وأبنائي, وآمنت
دائما بأنه لا فرق بين الزوجة وزوجها من الناحية المادية وشجعني على ذلك أن زوجي
رجل عطوف وحنون ويحبني حبا عظيما.. كما أنني أيضا أحبه حبا كبيرا, غير أنني لاحظت
عليه بعد عودتنا واستقرارنا في مدينتنا بالأقاليم اهتمامه المبالغ فيه بزميلة له
في العمل متزوجة ولها أبناء, لكني استبعدت أن يكون معجبا بها, ولم أمانع في التعرف
عليها استجابة لإلحاح زوجي على ذلك, وتم التعارف بيننا فأصبحت هذه السيدة بعد ذلك
جزءا من حياتنا, تزورنا هي وزوجها وأبناؤها كل يوم تقريبا, ويحرص زوجي على
استمرارها لأطول وقت ممكن.
وبعد فترة أخرى وجدت زوجي متحمسا لإنشاء مشروع
تجاري صغير, يموله زوجي ويشارك فيه زوج هذه السيدة بالعمل والمجهود وبدأ المشروع
بالفعل وتحسنت أحوال الشركاء المادية وجددت هذه السيدة أثاث بيتها, واشترت الذهب
والملابس لنفسها ولأولادها وكل هذا وأنا أنبه زوجي إلى أن هذه النفقات الجديدة من
رأسمال المشروع أو أرباحه, وزوجي يرفض تصديق ذلك ويكذب ظنوني ويتهمني بالتجني على
هذه السيدة وزوجها بدوافع الغيرة.
وثارت
مشاكل عديدة بيني وبين زوجي بسبب هذا الأمر, وطلبت منه الطلاق بعد أن أصبح الوضع
بينه وبين هذه السيدة المتزوجة محرجا أمام الأبناء, كما طلبت أيضا أن يجعل جزءا من
المال الذي شقيت في جمعه خلال سنوات الغربة باسمي, ولم يستجب لهذا الطلب أو لذاك, ومن
شدة غيظي وحنقي وضيقي بما أراه دعوت عليه بالموت مرارا وتمنيته له بالفعل لأنه لا
يستجيب لي, وإنما يستجيب لرغبات هذه السيدة الملعونة لا لشيء إلا لأنها بيضاء
البشرة وأنا سمراء! .. وتعجبت غاية العجب كيف لرجل مثل زوج هذه السيدة أن يرضى
لنفسه أن يلمس اهتمام رجل آخر بزوجته وغمره لأسرته بالهدايا والأطعمة الفاخرة لها,
ولا يتشكك في نية هذا الرجل الغريب تجاه زوجته, ولا يعترض على ذلك, بل يتقبل ذلك
بسعادة ورضا.
وكل
ذلك وأنا المخلصة الوفية لزوجي لا ألقى منه سوى التجاهل لرغباتي وتحذيراتي.
لقد
سلمت أمري إلى الله.. وغلبني حبي لأولادي الذين منحتهم زهرة عمري على إحساسي
بكرامتي كزوجة, وتركت لمن لا يغفل ولا ينام أن يحل هذه المشكلة التي أعيتني الحيلة
في حلها, وذات يوم ركبت السيارة مع زوجي إلى المدينة المجاورة لمدينتنا التي لا
يفصل بينهما سوى الكوبري لكي يدفع زوجي مبلغا من المال لأحد الأشخاص هناك.. وتوقف
زوجي بالسيارة قرب محطة السكة الحديد وترك لي مفاتيحها واستأذن في أن يغيب 10
دقائق فقط يعبر خلالها شريط القطار ويدفع المبلغ المطلوب ويرجع إلي .. وراقبته في
صمت وهو يتجه إلى شريط القطار لكي يعبره .. وقبل أن يصل إليه أذن لصلاة العشاء في
مسجد المحطة الصغير فاتجه إليه زوجي بدلا من عبور القضبان, وأدى الصلاة, وغاب بعد
ذلك عن نظري فلم ألاحظه وهو يتجه إلى غايته أو يرجع منها, ومضى الوقت وطال بغير أن
يرجع.. وبعد نصف الساعة مرت من جواري سيارة إسعاف تدوي صفارتها المزعجة وانقبض
صدري.. وبعد ساعتين أخريين غادرت السيارة لأبحث عن زوجي, فإذا بي أعرف أن قطارا قد
دهم رجلا لحظة عبوره لشريط القطار عند المحطة, وأنه نقل بسيارة الإسعاف وهو في
حالة سيئة إلى المستشفى .. وبطريق الصدفة البحتة اكتشفت من أحاديث من حولي أن هذا
الرجل هو زوجي, ومادت بي الأرض وسقطت مغشيا علي.. وتعاون الناس على حملي للسيارة
وإعادتي للبيت حيث تأكدت من رحيل زوجي عن الحياة ـ يرحمه الله ـ وتحملت الصدمة
المؤلمة وحدي وصبرت على أقداري ومصيبتي في أعز إنسان لدي في الوجود.
والآن
وبعد 10 أشهر على وفاته لا أستطيع أن أصف لك عمق حزني عليه وهو من كان زوجي وحبيبي
وأخي وكل من لي في الحياة.. ولقد مرضت بالسكر وساءت حالتي الصحية والنفسية, وأصبح
السؤال الذي يؤرقني ويضاعف من همومي وأحزاني هو: هل دعائي على زوجي بالموت هو الذي
عجل بوفاته؟ وهل استجاب الله سبحانه وتعالى لدعائي المذموم هذا عليه أم أنه قدر
مكتوب من قبل أن يأتي إلي الحياة؟, إنني مؤمنة بقضاء الله وقدره وصابرة على أقداري
لكن ضميري يعذبني وأعاني من الاكتئاب والإحساس المؤلم بأنني السبب في وفاة زوجي, وأدعو
له الله بالمغفرة والرحمة وأتعلق بالأمل في أن يكون موته عقب خروجه من المسجد
مباشرة كما علمت إشارة إلى أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد غفر له كل ذنوبه, لكن
عقلي يكاد ينفجر كلما تذكرت الطريقة الفظيعة التي لقي بها زوجي مصرعه.
وأرجو
من قرائك جميعا أن يقرأوا له الفاتحة ترحما عليه وأخيرا فإني أتساءل.. ألا يحق لي
أن أقاضي هيئة السكك الحديدية لمسئوليتها عن مصرع زوجي حيث كانت محطة القطار عند
عبوره لها مظلمة تماما فلم ير القطار الذي دهمه, وبعد الحادث تم إصلاح الإنارة
فيها؟ .. وهل أجد من قرائك من المحامين من يتبني هذه الدعوى القضائية ولدي كل
الأوراق والمستندات المؤيدة لها!
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
غير
أنه ليس من المستحب, أن يرجو الإنسان موت أحد مهما كان حانقا عليه أو مكلوما منه..
خاصة إذا كان هذا الإنسان شريكا له في حياته أو قريبا منه, لكنه ينقم عليه فقط بعض
أفعاله, ومن الأفضل دائما أن يعتصم المرء بالحلم والصبر على من آذوه, وأن يدع
أمرهم لخالقهم راجيا أن ينصفه ـ سبحانه وتعالى ـ منهم بعدله ورحمته.
فإذا
ما نزلت بهم النوازل لم يشمت في مصيبتهم ولم يفرح لها, وإنما اكتفي بالاعتبار.. والصمت..
والتفكر في عدالة السماء وعبرة الأحداث.
ومن
الأفضل كذلك إذا اشتد ضيق المرء بجناية البعض عليه وظلمهم له أن يدعو بدعاء الرسول
صلوات الله وسلامه عليه ـ المأثور عنه: رب أعني ولا تعن علي, وانصرني ولا تنصر علي,
وامكر لي ولا تمكر علي, وأهدني ويسر الهدي إلي, وانصرني على من بغي علي.
وفي
ذلك ما يغني المرء عن تمني الأذى للآخرين انتصافا لنفسه أو ثأرا لها منهم, وما
يطهر الصدور من سخائمها, ويعفي الإنسان من الإحساس المرير بالذنب إذا تصادف أن
أصابت الأقدار من اشتد به حنقه عليهم فرجا لهم الأذى, ومن دعاء الرسول الكريم كذلك
ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: رب تقبل توبتي, واغسل حوبتي واجب دعوتي, وثبت حجتي
وسدد لساني, وأهد قلبي, واسلل سخيمة صدري ومن سداد اللسان وهداية القلب وخلو الصدر
من سخيمته ألا يستجيب الإنسان لنوازع الغضب والحنق فينطق لسانه بما يندم عليه, أو
ينطوي قلبه وصدره للآخرين على ما يكرهه لنفسه من الأحاسيس والمشاعر.
غير أن
الإنسان خلق عجولا فما أن يضيق صدره بشيء حتى يطلق العنان للسانه وتمنياته, التي
لا تعدو أن تكون في أغلب الأحيان أكثر من إطلاق للبخار المكتوم في صدره, ولا تعبر
في حقيقة الأمر عن رغباته وتمنياته الحقيقية.. وما أسرع ما يندم عليها المرء لو
تحققت في أرض الواقع.وحالك خير مثال علي ذلك يا سيدتي, فلقد ضقت باهتمام زوجك بتلك
السيدة ورفضه الاستجابة لك, مع استمراره في الخضوع لها والاستجابة لرغباتها, فكان
أن تمنيت الموت له, فما أن أصابته الأقدار في موعدها المقدور حتى عضك الندم, وعانيت
الوحدة والوحشة وفقدان الرفيق, واستشعرت جسامة الخسارة الإنسانية التي أصابتك, ورجوت
لو كانت الحياة قد امتدت برفيق الحياة ولو كان في العمر ما فيه من الحسرات فأما
مصرعه وقد خرج لتوه من المسجد ذاكر القلب واللسان, ومتطهرا, فلعله من علامات
القبول والإجابة, بإذن الله, وأما عن مقاضاتك لهيئة السكك الحديدية لمسئوليتها عن
مصرع زوجك الراحل ـ يرحمه الله ـ فهي من حقك بل من واجبك أيضا تجاه نفسك وزوجك
الراحل وأبنائك, ذلك أن سكوت صاحب الحق المنهوب عن حقه قد يجعل المعتدي صاحب حق في
الاعتداء, أو يغريه بمواصلة عدوانه علي الآخرين بلا رادع ولا عقاب!
رابط رسالة الشعاع الوحيد تعقيبا على هذه الرسالة
شارك في إعداد النص / علا عثمان
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر